كنا بحاجة الى هذا الانتصار الذي يصنع علامة أُخرى وفارقاً آخر في نهاية النهار، على لوحة العلامات الكلية في صراعنا الذي لم يكل ضد هذا الاحتلال، آخر تجسيد حي يجسد قبح بني الإنسان في هذه الأزمان المتأخرة. كنا بحاجة لانتصارك انت أيها المرأة الفلسطينية حارسة روحنا ولكن المعلمة العظيمة الأولى على العالم، لكي نؤكد أولا في استحقاقك هذه الجدارة والرفعة والتعظيم جدارتنا نحن وعار وخزي عدونا. فبأي آلاء ربكم بعد ذلك تكذبون؟.
ويخرج منا على مدى سنين نكبتنا ومحاولة إفنائنا ومحونا كل هذا الجيش من الأكاديميين أطباء وصحافيين ومهندسين ومعلمين، علماء وشعراء ومثقفين وفنانين، وجيل من الشباب والفتوة يسلمون الراية من بعدهم لجيل. وبالقوة الصلبة تارة والقوة الناعمة يمزجون عنصري هذه المقاومة الكيمياء الفلسطينية، دونما شك جماعي بهذا اليقين من انهم ومع ذلك وبالرغم من كل ذلك سوف ينتصرون على ما يبدو على المستحيل.
هذه لحظة أُخرى لاحتفائنا بأنفسنا نحن الفلسطينيين في آذار 2016، بعد مئة عام من آذار 1916 المشؤوم، الذي تجاهل فيه النظام العالمي رسم الخرائط لنا نحن الفلسطينيين، فلم يقدر لنا ان نندثر او نموت وبقينا الى آذار التالي بعد مئة عام، الى هذا الجيل الثالث المعلمة حنان الحروب وجيل تلامذتها الجيل الرابع الذي يبكر ومعه المستقبل في القدوم.
وهذا ما كان انتصارنا على القوة الصلبة للاحتلال، ولكنه كان أُمثولتنا ومأثرتنا الى العالم كمثال آخر على تفوق القوة الناعمة وانتصارها في الأمد التاريخي والبعيد على القوة القاسية. ومرة أُخرى وفق القانون الذي بنى عليه كل قصة الحضارة والتاريخ المؤرخ العظيم ارنولد توينبي عن "التحدي والاستجابة"، والتحدي كان هنا هو الاحتلال وفي مواجهة هذا التحدي يتصرف شعب بأكمله وفق جواب واحد ان لا بد من الانتصار.
كتب معلق إسرائيلي قبل أيام ما يلخص القضية قال هذا: إن الفلسطينيين لا يملكون أي شيء ولكنهم فعلوا بنا حتى الآن كل شيء، وان هذه دولة فاشلة أي إسرائيل. متى عرفنا إذن ان الإعلام الفلسطيني يتحول بين لحظة وضحاها إلى أن يصبح أكثر قوة من الإعلام الإسرائيلي حتى يصب نتنياهو جام غضبه على هذا الإعلام؟ وهل أحد يسأل الآن أين تبخرت أسطورة الإعلام اليهودي في سيطرتها على العالم؟ ومتى عرفنا أن خليفة أسطورة الفلسطينيين عرفات هو الذي بعد وقت قصير، سنوات قليلة من سيعزل إسرائيل ويشد الحبل على رقبتها؟ ليختنق بنيامين نتنياهو وتتفكك تحالفات إسرائيل حتى لم يبقَ اذن سوى الأدغال الإفريقية.
ومتى ادركنا ان هجوم موشي يعالون على جهاز التعليم الفلسطيني بالتزامن مع نيل مرتبة الشرف الأولى باعتبار المعلمة والمربية الفلسطينية حنان الحروب المعلم الأول في العالم، باعتبارها الأكاديمية التي تحرض على العنف وتخرج الإرهابيين من منفذي العمليات؟ فإننا سوف نتيقن من ان العدو في مأزق وورطة. اذ كيف يحدث ان العالم ينتصر للمعلمة الأولى في فلسطين متوجاً إياها على هذا العرش لو كان ما يقوله يعلون صحيحاً؟
ان الاحتلال والاستعمار بطبعه في كل الأزمان لا يستحي ولا يخجل، ولكن يأتي وقت وقد فاض الكيل عن القدرة على الاحتمال، احتمال هذا العدو نفسه وشعب هذا العدو على وجه التحديد، مواصلة السير على هذه الطريق او العيش مع هذه الشياطين التي صنعها.
والذي يتضح اليوم ان ما يبدو التراكم الطويل ولكن البطيء المتواتر دون توقف من التراكم الكمي الذي يواصل بناءه الفلسطينيون، إنما هو الذي يدنو الآن من عتبة التغير الكيفي وفق قانون ماركس وهيغل عن الديالكتيك.
لم يعد بمقدور الاحتلال ان يواصل احتلاله كما كان يفعل في الماضي دون ان يدفع كلفة هذا الاحتلال على ثلاث جبهات، الكلفة المادية والسياسية والأخلاقية أمام العالم، وما تبعثه الانتفاضة الأخيرة الراهنة هو رسالة فلسطينية واضحة من ان الفلسطينيين لن يعودوا هذه المرة ثانية إلى مواصلة العيش وفق الظروف السابقة. وهذا هو الوضع الثوري او قوام عناصر الأزمات في هذه الحالة التاريخية التي تترافق غالباً مع الانفجارات، باعتباره الخيار الوحيد والحتمي الذي يصدر عن هذه الأزمات، وهو الوضع الذي بدأ التنبه الى عواقبه مبكراً ما يسمى بالمجتمع الدولي عبر هذا التوافق النادر الدولي الإقليمي.
والسؤال اليوم الى أي مدى يمكن السماح لأضعف ولكن اكثر أطراف العائلة الدولية تطرفاً وشراً، ان يمارس دور آلهة الانتقام هيرا ويواصل الهرب او النجاة من دفع هذا الاستحقاق، السلام في هذه المنظمة ككل؟ والذي بدأت ملامحه أي فرضه بقوة الإكراه من الأزمة السورية الى المبادرة الفرنسية بقوة دفع أميركية، اذن در يا بنيامين نتنياهو إلى هذه البئر، ومنها سوف تشرب وفي البعد الموازي أيضا الى مصر يا "حماس" هيا، كما لو انه ضرب من الخيال أو المعجزة "ادخلوا مصر آمنين". وذاك حراك أميركا والأوروبيين، وهذا حراك اللاعبين والقوى الإقليمية، لكيما يمهد الطريق الى مصالحتين: مصالحة تركية إسرائيلية تمهد لمصالحة عربية، ومصالحة فلسطينية داخلية بين فتح وحماس تمهيدا لوضع جميع الأوراق على الطاولة في مؤتمر السلام، المؤتمر الدولي لتحقيق السلام.
مساران متوازيان قد لا يبدو للوهلة الأولى وكأنهما لا يلتقيان او لا رابط بينهما، ولكنها الروابط والعلاقة والصلات غير الواضحة أيضا بين الاتهامات المصرية في اليوم الأول لحماس بقتل النائب العام المصري، وهو اتهام من العيار الثقيل واستقبال وفد "حماس" القيادي في اليوم الثاني في مقر المخابرات العامة المصرية في القاهرة، حتى خالد مشعل قال ان هذا محير، ولكنه ليس كذلك اذا استدركنا هذه المقارنة بدلالات أُخرى من الربط بين الطلعات الجوية الإسرائيلية في السماء الغزية في القصف الأشد والمقصود مؤخرا في بيت لاهيا، وبين هذه المحادثات في القاهرة في مقر الأمن القومي المصري. وحيث الرابط هنا والجامع بين كل هذه الأُحجيات هو التلويح المزدوج المصري والإسرائيلي أمام حماس بالعصا والجزرة، للقبول بما يعرض عليها في القاهرة، وهو ما يبدو الشرط المصري للدخول في اللعبة.
وهي اللعبة التي يمسك بخيوطها عن بعد ومن وراء الستارة الملك سلمان بن عبد العزيز ورجب طيب اردوغان، ولكن خراجها بالأخير يصب عند محمود عباس أبو مازن في الطريق سواء الى التسوية الإقليمية او الدولية معاً، بعد حل عقدة الحصار على غزة والانقسام والهدنة المفتوحة بين "حماس" وإسرائيل في غزة.
هل هو اذا الانتصار الرمزي والمعنوي أولا الذي يستحق الرجل عليه التهنئة بجدارة، في المرة الأولى هذه الطريقة القوة الناعمة التي أصر دائماً على سلوكها، وتتويج المعلمة حنان الحروب بهذا الوسام على صدر فلسطين، والمرة القادمة الانتصار الأكبر بقوة نفس السياسة، التي تجعل من اتفاق "حماس" وإسرائيل يصب في مصلحته بالأخير باعتباره هو الممثل للمشروع الوطني الفلسطيني، وهنا لب الصراع والمسألة في الشرق الأوسط.
وإذا كان أوباما وبوتين أقوى الأقوياء في العالم هما اللذان يوجهان الدرس اليوم لإسرائيل، فان بعض الأزمات لا تجدي معها القوة وانما الانسحاب والتفاهمات والسياسة.