(1
تتواصل الإنتفاضة الشبابية للشهر السادس على التوالي، وقدمت حتى الآن أكثر من مئتي شهيد، وآلاف الجرحى والمصابين والمعاقين، والأسرى في سجون الإحتلال. ورغم عدم إنعقاد الإجماع الوطني حتى الآن، على تبنيها خياراً سياسياً، وحمايتها وتطوير أدائها وتسليحها بالبرنامج الوطني الموحد، إلا أن تواصلها، على الرغم من واقع الإنقسام، وسياسة الإلتفاف والرهانات الخاسرة التي تمارسها السلطة الفلسطينية، يدل على أنها ليست ظاهرة عابرة، بل نتاج موضوعي لحالة التناقض مع الإحتلال، ونضج الظروف والعناصر الذاتية لتفجير هذا التناقض، وإحتدام المواجهة معه، من أجل إعادة صياغة المعادلة السياسية، وموازين الصراع، بما يفتح على شق الطريق أمام البرنامج البديل لإتفاقات أوسلو، البرنامج الوطني المرحلي، وتطبيق قرارات المجلس المركزي وتأمين الشروط لتسوية متوازنة تضمن الحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا الفلسطيني. إلى هذا لا بد من تسجيل تراجع فعاليات الإنتفاضة في المركز وإنتقالها إلى الأطراف، حيث خطوط الإحتكاك اليومي مع مظاهر الإحتلال والإستيطان، الأمر الذي يتطلب جهوداً إضافية على الصعيد الذاتي وعلى الصعيد الوطني، من أجل إعادة تفعيل دور المركز [المدن الرئيسية وغيرها] في الإنخراط بفعاليات الإنتفاضة ومواجهة الإحتلال والإستيطان، نحو الحرية والاستقلال■
(2)
إلى جانب حالة النهوض التي تمثلها الإنتفاضة الشبابية، تشهد مناطق الـ 48 هي الأخرى حالة نهوض وطني فلسطيني، بفعل وحدة كل الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية في إطار اللجنة العليا للمتابعة برئاسة محمد بركة وإئتلاف القوى الفلسطينية ضمن اللائحة العربية المشتركة في الكنيست برئاسة أيمن عودة، وهذا حقق وحدة وطنية شاملة لكل القوى والتيارات، برئاسة تقدمية ديمقراطية، وقيادة سياسية إئتلافية، وهذه تطورات جديدة ونوعية، تفتح على جبهة وطنية وإجتماعية عريضة في الشارع بمواجهة سياسات حكومة اليمين المتطرف، حكومة المستوطنين بقيادة بنيامين نتنياهو، كما وبمواجهة إيغال الحكومة الإسرائيلية والكنيست في صياغة منظومة قوانين ذات طابع عنصري فاقع، آخرها قانون التنحية والفصل من الكنيست، وقد صيغ ليتلاءم بدقة شديدة مع المحاولات العنصرية المستميتة لإضعاف الحضور الفلسطيني فيه وحرمان الحركة الشعبية الفلسطينية من الإستفادة من منبر الكنيست في الدفاع عن مصالحها وفي فضح حقائق السياسات العنصرية. كذلك من علامات النهوض البارزة في هذا المجال العمليات الفردية تحت تأثير فعاليات الإنتفاضة في القدس وأنحاء الضفة الفلسطينية. إن كل هذا يوفر الأسس الضرورية والمناخات المطلوبة لمد جسور التعاون والتنسيق والتفاعل بين جناحي الحركة النضالية الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر■
(3)
إن ضرورة «تشكيل قيادة وطنية موحدة» شعار ملح في هذه المرحلة، لأنه يشكل في مضمونه دعوة صريحة لتوفير الإجماع الوطني حول الإنتفاضة الشبابية كخيار كفاحي بديل، والعمل على تطويرها نضالياً وبرنامجياً. والتمسك بهذا الشعار، من أهدافه تسليط الضوء على سياسة القوى المعرقلة لتوحيد الموقف حول الإنتفاضة، وفي مقدمة هذه القوى السلطة الفلسطينية والأطراف الخاضعة لضغوطها السياسية؛ وكذلك تسليط الضوء على ظاهرة الإنقسام كعنصر معرقل للوصول إلى توحيد الموقف السياسي الفلسطيني، وتحميل طرفي الإنقسام [فتح وحماس] مسؤولية إدامة هذه الظاهرة، ومسؤولية تعطيل تنفيذ ما تم التوافق عليه في حوارات القاهرة [آيار (مايو) 2011]، من إنهاء الإنقسام، وإعادة بناء الحالة الفلسطينية سياسياً وبرنامجياً [وثيقة الوفاق الوطني] وتنظيمياً عبر إعادة بناء المؤسسات من خلال إنتخابات لرئاسة السلطة وللمجلسين الوطني والتشريعي بنظام التمثيل النسبي، وقيام حكومة وحدة وطنية شاملة من الفصائل والقوى والشخصيات المستقلة■
(4)
تتحمل القيادة الرسمية الفلسطينية المسؤولية الكاملة عن سياسة التسويف في تنفيذ قرارات المجلس المركزي في دورته الـ 27، التي تقود إلى فك الإرتباط تدريجياً بإتفاقات أوسلو، ووقف العمل بالتزاماتها والتحرر من موجباتها، لصالح السياسة الوطنية الجديدة والبديلة التي وفرت الإنتفاضة الشبابية وقرارات المجلس المركزي بالذات، مرتكزاتها الأساسية، والتي سبق أن صاغت عناوينها وثيقة الوفاق الوطني [26 /6/2006]. في هذا السياق، تتبع القيادة الرسمية عبر أدواتها الأمنية، وعبر مؤسسات السلطة المختلفة سياسة إختلاق المعارك الجانبية مع القوى السياسية الفلسطينية ومع مؤسسات المجتمع المدني [المعلمون، العمال والمستخدمون من خلال قانون الضمان الإجتماعي..] وتعزز تدخل أجهزتها الأمنية في الشؤون السياسية وتتوغل أكثر فأكثر في إعتماد سياسة تسلطية إستبدادية، تحاول أن تلجم الحركة الشعبية الفلسطينية، وأن ترهب قياداتها، وأن تعيد صياغة الأجواء الداخلية بما ينسجم مع إستراتيجيتها السياسية في الرهان على مشاريع وهمية لإستئناف المفاوضات الفاشلة.
إن ممارسات السلطة من شأنها أن تغرق الحالة الفلسطينية في سلسلة من المعارك الجانبية، وأن تعمق التباينات والخلافات السياسية، على حساب تزخيم القوى وتوحيدها، وتصعيد حالة الصدام والمجابهة مع الإحتلال والإستيطان. وهو أمر يتطلب منا، ومن القوى الوطنية والديمقراطية كافة، العمل والنضال الجماهيري في المدينة والقرية والمخيم، ورفع الصوت لكشف ونقد سياسات الاحتكار والإنفراد بالقرار السياسي والاجتماعي، والجنوح أكثر فأكثر نحو الاستبداد والفساد، والتراجعات العملية الملموسة عن قرارات الاجماع الوطني، والتحذير من مخاطرها، والدعوة للتصدي لها بزخم الحراك الشعبي وقوة الإرادة الوطنية، ولجم إندفاعاتها والإصرار على التمسك بالدعوة إلى توحيد الحالة الفلسطينية ميدانياً، وسياسياً، وعلى المستوى القيادي لصالح الإستراتيجية السياسية البديلة والجديدة■
(5)
في إطار سياسة التسويف في تنفيذ قرارات المجلس المركزي، حوَّلت القيادة الرسمية للسلطة القرارات الخاصة بتدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، واللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية بشكاوى ضد مجرمي الحرب الاسرائيليين إلى مادة للاستهلاك الإعلامي عبر إفراغها من مضمونها دون التقدم خطوة واحدة إلى الأمام على طريق التنفيذ الجدي لهذه القرارات. وواضح أن تردد السلطة وإستنكافها عن إتخاذ الاجراءات الضرورية لتحويل هذه القرارات إلى سياسة عملية تشكل دعماً لنضالات شعبنا، إنما يعكس ضعف الإرادة السياسية لدى السلطة، ومحاولة منها للتهرب من إستحقاقات هذه السياسة وما تمليه على السلطة من تبنٍ لوسائل كفاحية ونضالية أخرى وبديلة لسياستها الحالية.
إن إكتفاء القيادة الرسمية للسلطة بإجراءات العلم والخبر لمحكمة الجنايات الدولية، وترددها في طلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وأرضه من قبل الأمم المتحدة بشكل رسمي، وترددها في تبني الدعوة إلى مؤتمر دولي ترعاه الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، تحت سقف قرارات الشرعية الدولية، وبما يكفل الحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا، لا يوفر للإنتفاضة والحراك الشعبي الفلسطيني الحماية السياسية المطلوبة، ولا يؤسس لسياسة جديدة وبديلة نصت عليها قرارات المجلس المركزي ووردت عناوينها الرئيسية في وثيقة الوفاق الوطني [26/6/2006]. إن هذه المهام، المتمثلة في تنظيم الهجوم الدبلوماسي الفلسطيني، لنزع الشرعية عن الإحتلال وعزل إسرائيل، ستبقى على جدول أعمال القوى الوطنية والديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني بإعتبارها عنصراً رئيسياً، ومرتكزاً أساسياً من عناصر السياسة الجديدة والبديلة، ومرتكزاتها المتضمنة في البرنامج الوطني المرحلي■
(6)
في السياق نفسه، بات واضحاً أن السلطة الفلسطينية في سلوكياتها، خاصة في التسويف الخطير لتطبيق قرارات المجلس المركزي، ومواصلة التنسيق الأمني مع سلطات الإحتلال وبأساليب تجاوزت حدود التعاون في السابق، وفي تصديها للحراكات الشعبية الوطنية والإجتماعية والمطلبية، بدأت تنزلق إلى مواقع خطيرة، باتت تنتقل بها تدريجياً من موقع السلطة الضعيفة المغلوبة على أمرها أمام ضغوط سلطات الإحتلال، إلى سلطة تسلم وتستسلم، وتذهب بعيدأ في الرضوخ لضغوط سلطات الإحتلال والتجاوب معها في إطار الحفاظ على المصالح الضيقة للفئات الإجتماعية المستفيدة من دوام الحالة على ماهي عليه، والتي ترى نفسها متضررة من أي تغيير قادم لصالح المصلحة الوطنية العليا. مثل هذا التطور يحتاج هو الآخر إلى العمل على كشفه وتسليط الضوء عليه، وفضحه بالنقطة الواحدة، والضغط عبر الحراك الشعبي، للجمه، وإرغام السلطة الفلسطينية على التجاوب مع المصالح الوطنية وتغليب هذه المصالح على أية مصالح أخرى■
(7)
مثل هذه السياسة تتطلب إتباع تكتيكات واضحة ترسم المسافة الضرورية عن سياسة السلطة الفلسطينية بإعتبارها وحدها المسؤولة عن الحالة التي وصلتها وأوصلت الحالة الوطنية إليها، وتحميلها مسؤولية التصدي لضغوطات سلطات الإحتلال. وفي الوقت نفسه تصعيد خطابنا في إنتقاد سياسات السلطة ومواقفها في السياسة وفي القضايا الإجتماعية والمطلبية والحريات الديمقراطية، والدفاع عن مصالح العمال والقطاعات الشعبية الفقيرة والفئات الوسطى، بما فيها المعلمون وصغار الموظفين وأصحاب الدخل المحدود في مواجهة السياسات الإقتصادية للسلطة التي أدت وتؤدي إلى مزيد من التدهور لظروفها المعيشية■
(8)
تتراكم المؤشرات التي تؤكد وصول المرحلة السياسية الحالية إلى نهايتها، وإلى أن العملية السياسية تمر في مرحلة عنوانها الفشل والجمود، ما يفتح الباب لمرحلة سياسية جديدة. فشل المرحلة السابقة يضع نهاية للعملية السياسية كما صاغت الولايات المتحدة وإسرائيل أسسها وآلياتها، وشروطها وموازينها ومرجعياتها، وأهدافها. إن إجمال الحقوق الوطنية بمصطلح «حل الدولتين»، ما لم يتم التوضيح الصريح لمضمونه، يفتقد إلى التحديد القاطع لحدود الدولة [4 حزيران (يونيو) 1967] ولعاصمتها [القدس الشرقية على حدود الـ 67]، كما يفتقد للإشارة الواضحة إلى ضمان حق العودة الذي يكفله القرار 194 .. هذا المصطلح الذي فتح – كما حصل حتى الآن - على المناقصة على أهداف البرنامج المرحلي كما وردت أعلاه [إلى جانب هدف المساواة القومية في مناطق الـ 48] عطلت إسرائيل، وبدعم أميركي مفضوح إمكانية الوصول إليه حتى لو كان منقوصاً. إسرائيل تثبت – بالنتيجة - عبر 25 عاماً من المفاوضات رفضها قيام دولة فلسطينية على حدود الـ 67 وضمان حق العودة للاجئين، عبر آليات تفاوضية تمسك هي بموازين قواها وآلياتها.
فشل العملية السياسية الجارية بسقف «حل الدولتين»، أي الحل الذي من المفترض أن يقوم – رغم كل الإلتباسات المتعمدة التي تحيط به كما سبقت الإشارة - على أهداف «البرنامج الوطني المرحلي»، دفع البعض إلى تقديم طروحات «حل الدولة الواحدة» كبديل. إلا أن هذه الطروحات بقيت في إطارها الشعاراتي، وعدا عن كونها تفتقد إلى الوضوح البرنامجي وإلى رسم الأسس والآليات والمرجعية، فإنها تفتقد أيضاً إلى تعيين الروافع السياسية والإجتماعية في الداخل الإسرائيلي. والإنزياحات اليمينية الإسرائيلية توضح إلى أي حد تسيطر الأفكار العنصرية والعرقية المتطرفة ليس وحسب على مفاصل الحكومة الإسرائيلية، بل كذلك على القطاعات الأوسع من السكان اليهود في إسرائيل والمستعمرات الاستيطانية في القدس والضفة الفلسطينية.
إن إنغلاق العملية السياسية الحالية على الفشل الذريع، هي الفرصة التاريخية، مرة أخرى، لإعادة الإعتبار للبرنامج الوطني المرحلي، الذي تتوفر عناصره الموضوعية والذاتية متمثلة في الإرادة الوطنية الجامعة والإنتفاضة وقرارات المجلس المركزي ووثيقة الوفاق الوطني وقرارات الشرعية الدولية، وتكامل النضال المشترك تحت سقف البرنامج الموحد بين مختلف قطاعات وفئات شعبنا على جانبي الخط الأخضر وعموم تجمعات شعبنا في الشتات■
(9)
في هذا السياق يندرج موقفنا الواضح والصريح في نقد المبادرة الفرنسية الهابطة عن قرارات ومرجعية الشرعية الدولية، والتحذير من مخاطر طرحها بديلاً عن المؤتمر الدولي الشامل بمرجعية قرارات الشرعية الدولية ورعاية الدول الخمس دائمة العضوية. فهي، كما نراها، محاولة لتمرير الوقت، وملء الفراغ الذي أحدثه الاستنكاف الأميركي عن رعاية العملية السياسية، إلى حين أن ترتب واشنطن أوراقها، وتستعيد دورها في رعاية عملية سياسية من المتوقع مسبقاً ألا تحمل في طياتها ما هو جديد.
في هذا السياق أيضاً، تنطلق دعوتنا إلى مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لكشف عناصر المؤتمر الذي تدعو له المبادرة الفرنسية وتتبناه القيادة الفلسطينية الرسمية، والذي يقتصر على مشاركة اسرائيل والسلطة وعدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة ودول عربية. نحن ندعو إلى مؤتمر دولي، يتبناه مجلس الأمن الدولي، وترعاه الدول الخمس دائمة العضوية، ينعقد وفق قرارات الشرعية الدولية الملزمة لإسرائيل، بما يكفل إنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية، أي دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية بحدود 4 حزيران (يونيو) 67، وضمان حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948■