.
بعض الحكومات قرأت جيداً سيناريو تعامل الولايات المتحدة مع التطورات فى الشرق الأوسط، مع تفاعل الانتخابات الرئاسية فى مرحلتها التمهيدية والصدمة التى يشعر بها الداخل الأمريكى نتيجة صعود مفاجيء لقوى فى اقصى اليمين وفى أقصى اليسار الليبرالى وفهمت أطراف عربية وشرق أوسطية أن إبداء مرونة بشأن ما يجرى فى المنطقة لم يعد خيارا بل ضرورة قصوى حتى لا تتركهم واشنطن فى منتصف الطريق فى عام صعب وبعد أن فتحت ملفات عديدة للصراع والحروب الأهلية فى سوريا واليمن وليبيا والعراق وخطر يتهدد بقوة لبنان.
حالة السيولة فى السياسة العربية تسمح اليوم بتغيير المواقف على فترات زمنية صغيرة جداً وربما تتبدل مواقف فى غضون أيام قليلة نتيجة متغيرات دولية وإقليمية تخالف الحسابات التقليدية. على سبيل المثال، تركت أسعار البترول دولا عديدة فى الشرق الأوسط مهددة بتراجع حاد فى الموازنات السنوية وفى الإنفاق على الصحة والتعليم والمرافق العامة وهو ما ظهر فى بوادر الاقتراض من مؤسسات وبنوك دولية مؤخراً.
فى المقابل، وصلت منظومة إدارة السياسة الخارجية الأمريكية إلى مساحة جديدة من الارتباك أرسلت إلى الشركاء فى المنطقة أن التعويل على واشنطن فى تلك المرحلة، رغم كل الروابط الاستراتيجية المعلومة، ربما لن يجدى نفعا ومن الأجدى أن تبحث تلك الدول عن سبل لاحتواء المخاطر وتقليل حدة الاعتماد على الموقف الأمريكي.
الولايات المتحدة تبحث عن شراكات متعددة فى المنطقة والإتفاق النووى الإيرانى يفتح الطريق أمام سياسة مختلفة عما سارت عليه واشنطن فى الأعوام الأربعين الأخيرة، فهو يضمن لها الإمساك بأوراق عديدة من بينها عدم قدرة طهران على بناء تحالف مع دول تصارع على النفوذ الإقليمى وأعنى هنا التقارب بين إيران وروسيا تحديداً.
-------
مشهد الانتخابات الأمريكية يقول إن البيت الأبيض لن يجرؤ على اتخاذ قرارات كبيرة قبل يناير المقبل، موعد تسلم الرئيس الجديد للحكم سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، وبعد أن قلبت الانتخابات التمهيدية فى الحزبين الأسس التقليدية للسياسة الأمريكية لم يعد ممكنا الحديث عن السياسة الخارجية بمعزل عن سياق المنافسة بين (هيلارى كلينتون - بارنى ساندرز) فى المعسكر الديمقراطى (ودونالد ترامب- تيد كروز) فى المعسكر الجمهورى حيث تبدو نذر التغيير قائمة، ولعل ما قاله الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى حديثه لمجلة «اتنلانتك» فى عدد أبريل تحت عنوان «مبدأ أوباما» يعتبر نوعا من المراجعة التى فتحت الباب أمام نقاشات موسعة عن دور الولايات المتحدة عالمياً وطبيعة مصالحها فى الشرق الأوسط على شكله الحالى وقدرتها على التعامل مع مخاوف الأصدقاء.
-------
حمى المفاوضات التى تجتاح الشرق الأوسط اليوم، كما لو كان الجميع تذكروا فجاءة معاناة الملايين من شعوب سوريا واليمن وليبيا، تؤكد أن الحكومات التى غذت الفوضى أو صنعتها لم يعد فى جعبتها سيناريوهات كثيرة ولم يعد فى مقدور خزائنها الإنفاق على مزيد من الميليشيات وأن مايسترو المنطقة منشغل عنهم بالداخل أو على الأقل يبحث عن تسويات مع الكبار على الساحة الدولية. فمن هنا لا يعد الموقف الروسى بسحب القوات من سوريا بعد إنجاز مجموعة أهداف مثيرا للدهشة بل يستقيم مع التقلبات الحادثة على الساحتين الدولية والإقليمية ويكون التلويح بإمكانية تقارب بين دول الخليج وإيران وطرح تصورات عن امكانية الجلوس على مائدة التفاوض أمراً منطقياً، فهناك من يرى العبث فى تمويل صراعات داخلية فى دول أخرى ستكون عواقبها كارثية مثلما حدث للدولة السوفيتية فى أفغانستان فى أواخر السبعينيات من القرن العشرين.
--------
تراجع أوباما فى حديثه المثير للجدل شكل «صدمة» مثلما قال الكاتب الشهير عبدالرحمن الراشد فى مقاله بصحيفة الشرق الأوسط يوم الخميس الماضي، فالرجل يحمل فى داخله آراء أكثر حدة تجاه الدول الصديقة فى الخليج وربما تكون تلك قناعات سوف تعرف طريقها إلى مراجعات أكبر على مستوى الدوائر الأمنية والاستخبارية فى الشهور القادمة وفى وجود مناخ مختلف يميل إلى العصبية والتشدد يمكن أن ترتفع سخونة النقاش بين معسكرات مختلفة فى الداخل الأمريكى تصب فى نهاية الأمر فى تغيير وجهة السياسة الحالية مع احتفاظ واشنطن بما يضمن صيانة أولويات مصالحها فقط فى السنوات القادمة. بالنسبة للبعض فى العالم العربي، الفزع ليس من ترامب وحده، الفزع من انسحاب أمريكى من التزامات طويلة الأمد وترك فراغ كبير يزيد من رقعة الفوضى!.
-الاهرام