الكاتب: المتوكل طه
قبّل يدي أُمك التي استعادت فلسطين الأولى، قبل خمسة الآف عام، بثوبها المطرّز وصينية المسخّن، وحزمة السنابل التي تطلّ من زهريّة الزجاج، كما استعادت فلسطين، اليوم، بدم شريكها وسنوات اعتقاله وأيام أولادها خلف القضبان.
قبّل يدي سيدة البسيطة التي يحق لها آية تهبط من السماء تكرّسها نموذجاً للعبادة، لتترسّم نساءُ الأرض خطواتها المُعشبة المجيدة على تراب الكوكب، ولكي يكون في سِفْرنا الفلسطيني مثالاً لوالدة "عوج بن عناق" أو لزوجته أو لشقيقته، التي كانت ترى زوجها يمدّ ذراعه في عباب البحر ليصطاد الحوت ثم يرفعه إلى عين الشمس الناغرة ليشويه ويقدّمه عشاءً لابنائه الطافحين بالحياة . لقد كانت عناة تقطف كل زهور الربيع وعروق الاعشاب الممتدة وورد الجداول والجبال والحيطان، وتزيّن ثوبها، ليكون ليل العملاق مثل بدر التمام. مَنْ لم تأكل من شفتيْ عوج بن عناق، الحوت..، ومَنْ لم تفختها الأفعى، في حرّ الليل، وتمنحها ذهبَ الأهدابِ، فمثواها التابوتِ.. ومَنْ لم يقطر دَمُها، بين أصابعهِ، ويئزُّ الصقرُ العوجيُّ عليها، أو يسكنها جمرُ التوتِ.. تموت. ومّنْ لم يشربْ من نَحْرِ عناةٍ، أو تلذعهُ النارُ المسكونةُ، في الصدرِ.. فلن يدركَ سِحْرَ الكهفِ، ويلعبَ بالحَجَرِ الرَخْوِ، على بوابةِ هاروت وماروت.. ومَنْ لم يقطعْ نَهرَ الماسِ، سيحرقهُ الظمأُ الرمليُ.. ومَنْ لم يصل القاعَ البحريَ، ويعبق بالماءِ الياقوتِ.. يموت.
***
عندما تموت الأم يصيح ملاكٌ في السماء يقول لابنها: مات أول من يحبّك وآخر من يحبّك. لقد رحلت أمي قبل أن يخلعوا عليها باب دارها، وقبل أن ترى كل أشجار الزيتون والبرتقال واللوز والتين والرمان مخلوعة في أرضها، لقد عادت أرضك يا أمي حمراء دون زرع، كأنها رحم امرأة تنتظر مَنْ ينعفها بالصغار والشجر والطيور.
وربما ـ رغم موت أمي ـ كنتُ محظوظاً أكثر من ذلك الرجل، الذي أجبره جنود الاحتلال على خلع ملابسه كلها، هو وكل الرجال الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال عند ذلك الحاجز، ثم أمر الجنود النساءَ المتواجدات أن يخلعن ملابسهن كلها، ولولا ذلك الاشتباك الطاحن الدامي الذي وقع فيه شهيدان... لرأى ذلك الرجل أمه عارية! بسبب صمت العرب والمسلمين والمسيحيين والسيخ والبوذيين والفودو والطوطميين...
و... ماتت أمّي.
ماتت أمّي والطبول البعيدة تقترب من نافذتي، فيترنّق الأصيص، ويبدأ حلم طفل يلهث بالحجارة في براري الشقائق والشمس الصغيرة.
ماتت، والقوس بكامل توهّجه في سماء الانتفاضة، واضح الأطياف، يفتح الأبواب للبرق المخزون في غيوم الأرض. ماتت والدم لم يتخّثر في أرض الرباط، والبطن المبقور يشهد على الجلّنار المذبوح على صدر أُمّه، واللجوء ما زال يفرد غربانه من هناك إلى هناك.
ماتت، وامرأة نائحة تقول لآخر أبنائها: اذهب حتى لا تغلبني الخنساء أو تجد نساءُ المخيّم ما يكسر عزائي. وامرأة تقول لضفيرتها: احترقي حتى يحفظ ابني خارطة الغناء. والمفتاح الثقيل يقول لحامله الشيخ: ما زلت قادراً على فضّ الرمّانة وفك الصدأ. وطفل يولد الآن يقول: امسحوا دموع فاطمة حتى لا ترمد عيون مريم.
ماتت أُمي، والحجر الفلسطيني ما زال يهشّم وصايا التائهين الذين أحالوا المكان المؤوّل بالوَهْم، حيث تصل البساطير، إلى سجن يُدوّي بالغضب.
ماتت وعرق الشيوخ يختلط بشرايين أبنائهم، ويدهم على جراح أحفادهم كأنها يد الله على كتف الأنبياء.
ماتت الحاجة ، والناس هنا في فلسطين يتقاسمون الرغيف والنزيف الذي يصهد الصخر، فتنحلّ خاصرته ويصبح ذراعاً تشهد على تعالي النسغ والضفيرة والرغيف الذي يسقط قمحه في جرحٍ غائر أو قبرٍ صغير أو حديقة لا تنام، ليشقوا العتمة، ويفتحوا ذلك المسرب السرّي للبراعم الفراخ، لتكون كمشيئة الله، لا يهتك بها غاز او عارٌ أو دخيل، وحتى نصحو بعد ليل طويل على صوت مولودة لها اسم إيمان أو فتى له اسم محمد، وحتى ننسى عرائس الموت وقشعريرة الإعدام الجماعي، او نحتفي بأولئك المصلوبين، خلف القضبان، على العقرب المخاتل.
ماتت أمي، والسيدة العمياء العدالة لم تسترجع بعد بصرها أو بصيرتها، لكننا ماضون.
***
إن رأسي مليء بالدمع، ولي رغبة بالبكاء ، وأحسّ بأنني مشتاق لأُميّ التي لم أرها منذ سنين بعيدة ! آه يا أمّي ، خذيني وَضَعي رأسي في حجْرك ، واحكي لي عن الضوء الذي كان ينبثق من الصخرة في الليل! وَقُصّي عليّ حكاية الدرج المسحور الذي اختطف البنت ذات الجدائل ! ودعيني أغفو وأنام وأنت تحكين قصّة الغولة التي أبكاها اليتيم ، فأخذته وربّته إلى أن صار فارساً مغواراً.
وتمتمي فوق رأسي أدعيتك التي تبقيني معافىً لا ينالني الحسدُ ، وارقيني من الأرواح الشريرة التي تدبّ في عتمة الهزيع .
يا مَنْ يرى أُمّي ، فلْيبكِ على كتفها بدمعي .
ويا مَنْ يصادف الطفولة ، فَلْيُسلِّم عليها .