يشي قرار جامعة الدول العربية تصنيف حزب الله جماعة إرهابية، بخطة "احتواء" للحزب. ثم يأتي استقبال القاهرة لوفد من حركة "حماس"، ليشي أنّ هناك ربما محاولة "انفتاح" على الحركة، لضمان عدم عودة علاقاتها مع الحزب وطهران إلى سابق عهدها.
سأستعير من علم العلاقات الدولية مصطلحين للتعليق على ما يحدث. الأول، هو "الاحتواء" (Containment). والثاني، الانفراج (Detente).
برز المصطلح الأول في تموز (يوليو) 1947، في مقال نُشر في دورية "فورين أفيرز" باسم مستعار هو (X)، ليتحدث صاحبه عن تصور لكيفية التعامل الأميركي مع الاتحاد السوفيتي. وطرح الكاتب أنّ الروس يؤمنون ويروجون أنّ الرأسمالية ستنهار، وأن الولايات المتحدة في طريقها للكساد والضعف. وقال إنّ الروس لن يتراجعوا أبداً عن استهداف العالم الرأسمالي. كما تحدث كثيراً عن الدولة البوليسية والإرهاب داخل الاتحاد السوفيتي، الذي سيضعف بالنتيجة الروس والحزب الشيوعي في المدى الطويل. وكانت أهم توصيات الكاتب عدم السماح للروس بالتحرك بسهولة لترويج أيديولوجيتهم وعدائهم للرأسمالية، وملاحقتهم حيث ينشطون.
ولكنه قال إنّ استفزاز الروس وجرح "بريستيج" قادتهم يمكن أن يتحول سلاحا بيد هؤلاء، لحشد الرأي العام خلفهم والتصعيد. واقترح سياسة طويلة المدى، من دون مواجهة شاملة عنيفة، تقوم على نشاط إعلامي مضاد. ولكن الأهم بكثير من ذلك، برأيه، حفاظ الولايات المتحدة على نفسها، وتقديمها انطباعاً أنها متماسكة وناجحة، تحل مشكلاتها وتمارس واجباتها كقوة عظمى. وهذا من شأنه ضرب كل الدعاية الروسية بشأن الانهيار الرأسمالي، ما سيضرب ويذيب أنصار الشيوعية، وسيفتح المجال للتناقضات الداخلية في الاتحاد السوفيتي للتفاعل، خاصة مع القمع هناك، ومع تركيز موسكو على الصناعة الثقيلة على حساب السلع الاستهلاكية والإسكان والمواصلات والتعليم، وباقي أساسيات الحياة.
اتضح لاحقاً أنّ صاحب المقال هو جورج كينان (1904-2005)، المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، والذي خدم قبل ذلك سفيراً في موسكو. وبحسب مؤرخي السياسة الأميركية الخارجية، صنع المقال تحولاً في سياسات واشنطن، وجسّد سياسة ما بعد الحرب الباردة. لكن كينان نفسه، الذي تقاعد وصار أكاديمياً، تحول لمناهض لسياسة الاحتواء المطبقة، إذ إنّ خلفه في رئاسة دائرة تخطيط السياسات بالوزارة، بول نيتسه (1907-2004)، فهم سياسة الاحتواء بأنها تتضمن الضغط العسكري والحروب، خصوصاً الحروب بالوكالة، ضد أي محاولة تمدد للشيوعية. وبقيت السياسات الحادة سائدة حتى نهاية الستينيات، حين بدأت مرحلة الانفراج. لكن الرئيس الأميركي رونالد ريغان (1981-1989) عاد لسياسة الاحتواء، من دون أن يتقيد أيضاً بتوصيات كينان؛ فشن هجمات إعلامية ضخمة ضد السوفييت. وبينما سعى إلى تأكيد نجاح الاقتصاد الأميركي، فإنّه فعل ذلك بكثير من جرح "كبرياء" الروس، حتى إنه تخصص بإطلاق نكات تسخر من الروس واقتصادهم وإدارتهم.
لو قيض للدول العربية التي تقود الحملة ضد حزب الله تبني الاحتواء، كما جاء به كينان، لقامت بدحض المقولات الأساسية لحزب الله؛ بأنّه قوة الممانعة، وبأنه حزب "المستضعفين"، مع إعلانه تبني ولاية الفقيه. وذلك بطرق أهمها، الضغط على الغرب للتوصل إلى حل في المسألة الفلسطينية، ليسحب ورقة القوة الأولى في خطاب الحزب؛ ولقدموا نموذجا اقتصاديا ناجحا (بدل الحملات الحالية لدول الخليج العربية لإنهاء عقود أعداد كبيرة من العمالة الوافدة لأسباب مالية مرتبطة بتراجع أسعار النفط، وأسباب أمنية وسياسية)، ولقاموا بإصلاحات ديمقراطية.
في العام 1969، حدث الانفراج مع السوفييت نسبيا، لكن مطلع السبعينيات ذهب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ومساعدوه إلى بكين الشيوعية، وانفتحوا عليها. وأسهمت التفاهمات وتنمية العلاقات معها في ضرب فرص التحالف الروسي-الصيني، وتَحوَّلَ الصينيون الشيوعيون إلى عامل ضعف للشيوعيين الروس. ويمكن تخمين تطور ما يجري مع "حماس" إلى انفتاح شبيه بما حصل مع الصينيين، من حيث منع العلاقة مع إيران.
لو طبق العرب المناهضون لحزب الله انفتاح كينان، بتبني حل الشأن الفلسطيني، وتقديم نموذج نجاح جذاب، لضمنوا "حماس" معهم بشكل أفضل، أو لما احتاجوا لأخذها بالاعتبار أصلا، ولأحرجوا حزب الله، ولما بقي في المشهد إلا تحالفه مع بشار الأسد وطهران، بكل إشكالياتهما والعداء لهما، من دون النظر لدوره في المقاومة، ولقصّروا الطريق. ولكن ذلك يبدو نقيضا لمصالح النخب المحافظة الرافضة للإصلاح، التي تصر على رؤية الاحتواء الآخر.