جلس الكهل الخبير يناجى الفتى الغرير ويدلله، يضع يده المدربة على جبهته يمسح على شعره بترانيم تأخذ القلب، يلقى عليه الرقى والتمائم والأهازيج تموج أدخنة البخور بمعتق الرائحة ترسم خيالات غامضة فى الهواء، تخدر المشاعر والأعصاب، يطوف به عالم الأحلام، يقص حواديت حور العين بجمال كما الأساطير، بسحر يفوق كثيراً تلك التى رفضته وفضلت ذلك الآخر عليه، يصف له قصوراً ليس لها مثيل، يتناول إبريق ماء معطر بالورد ينساب بارداً رقراقاً على يديه، يشمر الشيخ كمى جلبابه الأبيض الفضفاض عن ساعديه، ينحى سبحته الماسية المشغولة بإتقان، يتوضأ الاثنان يعطيه شرف الإمامة للجميع، يشعر بحرج، يشجعه باقى الأقران، ينظرون له بهيبة واحترام فقد حمل عنهم عبئاً ثقيلاً، يظهرون غبطتهم لأجله وكانهم يتمنون أن يكونوا مكانه بينما فى أعماقهم يخشون تراجعه فيكون على أحدهم القيام بالمهمة الأخيرة، يحظى باهتمام وتميز لم يشعر بهما فى حياته القصيرة المليئة بخيبات الأمل والانكسار، أب لا تحمل الذاكرة من ملامحه الكثير، أم ذاقت المر والحاجة وسقطت وسط الطريق، لينفرط عقد العائلة وتتوه الأخت الكبيرة فى (سكة اللى يروح ما يرجعش) وتنكسر عينه أمام ما تحضره آخر اليوم لإطعام الصغار، يهرب من عجزه، من نفسه، من كل شىء، يتلقفه الشيخ الطيب يهديه إلى طريق الخلاص، ويجهزه للفوز الكبير، إنها ليلة عرسه المفاجئ، حيث لا يعرف أحد بالمهمة إلا قبلها بيوم، وهو شرف اختصه به الشيخ الكبير، والعرس ممدود حتى الفجر لا يتركه الشيخ فيه للحظة، يظل يذكره بما ينتظره من نعيم يرافقه كظله، يلقى عليه من الآيات والأحاديث الحاضرة مسبقاً ما يثلج الصدر ويشرح النفس، حتى تلك الآيات التى لا يكاد يفسر معانيها يشرحها له الشيخ الطيب، فيتبين منها ما يلهب حماسه ويشد أزره لنصرة دين الله ورفعة راياته، عيون الشيخ الثاقبة لا تتركه لحظة، فتلك مهمته أو مهنته التى يمارسها باقتدار، يساعده قناع الطيبة والهداية اللتان تنطليان على السذج محدودى الفكر والثقافة، تحين اللحظة، يودعه الشيخ بحضن كبير ودعوات مرسلات وتذكير بما ينتظره بعد لحظات، يرافقه اثنان من الرفاق فكل شىء هنا بنظام، يتابعانه عن كثب يصورانه لحظة بلحظة، يشعر أنه بطل لفيلم عظيم يقوم الآن بأداء المشهد الرئيسى فيه (Master seen) المنقذ لهذا العالم، يقترب من الهدف، يشعر بدقات قلبه ستفضحه، يجد نفسه وحده أخيراً معها، يسأل نفسه لأول مرة ما هذا الذى أفعله، لتقف فى وجه الإجابة عيون رفيقيه اللذين يراقبانه، ترى هل يستطيع الهروب الآن، ولكن إلى أين، هو يدرك تماماً أن نهايته ستكون على يد أحدهما، فليمت بطلاً وينعم بعد لحظة ألم قصيرة بالسعادة الأبدية، كما وعده الشيخ الطيب، فالشيخ يعرف كل الأشياء ويفهم ما لا يستطيع عقله إدراكه، تذكر نكتة سخيفة قالها صديقه اللبنانى المرح أثناء اقتحام انتحارى لفندق، قال موظف الاستقبال (دخيلك خيى ليش تعبت حالك لو بدك تفجر الفندق لتفوز بالحوريات احنا نهديك حوريات وتجلس بيهم بالفندق)، انتبه على رفيقيه يصدران إشارة التنفيذ ويبتعدان بسيارتهما، تلعثم وهو يحاول تلاوة بعض الآيات، وجد أطفالاً يعبرون الطريق، قرر الانسحاب وليكن ما يكون، وهو يحاول الخروج من منطقة الهدف تنطلق رصاصات محترفة تصيب خزان الوقود بسيارته المفخخة، ليتحول كل شىء إلى الجحيم ذاته، ولأجد أخيراً إجابة غير مرضية ولكنها المتاحة عن كيف يقنع إنسان آخر بإنهاء حياته؟ فى الجانب الآخر من المدينة يجلس الشيخ متخلياً عن عباءته ومسبحته وفى حضنه إحدى حوريات الدنيا بعمر حفيدته، يصله الخبر فقد تمت المهمة بنجاح، يتابع عبر حاسبه الشخصى تحويل المبلغ المتفق عليه، والأوامر للمهمة التالية، وكانت المفاجأة أنها فى بلاد السقيع، يشد الرحال، يقوم بدوره المعتاد، فهو كمحترف لا يعنيه سوى التنفيذ، لتستيقظ المدينة الأكثر أمناً على دوى كبير، يجبرنا حياؤنا على الصمت فى مواطن الكلام حتى لا نتهم بنقيصة الشماتة، بينما لا يخجل الآخرون، تطالعنا دموع صانعى القرار فى الغرب، ليذكرونى بمن يربى الأفاعى الصغار (الكيوت)معتقداً أنها ستدين له بالولاء، وتغالب طبيعتها الخبيثة مهما كبرت وتدفأت، وتكون سلاحاً له لا عليه يهدد بها ويوجهها كيفما يشاء، لا يدرك أن عجرفته ستستفز جبروت الطبيعة التى وإن سكنت أحياناً سكون الترقب -ليفرح الغافل حتى يفقد حذره- ستباغته بدرس من دروسها القاسية، ويعيد التاريخ نفسه وقليلاً ما يفقهون، فلا يسعنا إلا أن نقول إن كل الدماء حرام، ولكن هذه بضاعتكم رُدت إليكم.
عن الوطن المصرية