لم تنجح مباحثات جنيف في تقريب المواقف بين النظام السوريّ والمعارضة. لكن على طاولة المفاوضات بين موسكو وواشنطن، حيث التأثير الفعلي، يتمّ إحراز تقدم يمكن أن ينتهي وقفاً لحمّام الدم السوري، وتمهيداً للتّوصل إلى صيغةٍ تبدأ وفقها رحلة إعادة بناء سورية. لذلك ستُستأنف مباحثات جنيف الشهر المقبل.
الطريق ستكون طويلةً وصعبة. لكن رغم مواقف الحدّ الأقصى التي تتبنّاها الأطراف، باتت معالم الحلّ الوحيد المتاح وفق موازين القوى واضحة: عمليّة انتقالٍ سياسيّ متدرجةٍ تقود إلى رحيل الأسد.
فالحلّ العسكريّ ثمنه دم سوريٌّ غزيرٌ وأخطارٌ أمنيّة في العالم كلّه. لن يتمكّن الأسد من حكم سورية مهما قتل ومهما تلقّى من دعمٍ روسي وإيرانيّ. تعرف موسكو ذلك. وتعرف أميركا أيضاً أنّ إسقاطه عسكريّاً لن يكون متاحاً من دون حربٍ أوسع ستزيد من الخطر الإرهابيّ عليها وعلى حلفائها في العالم العربيّ وفي أوروبا. ورغم المواقف اللفظيّة المتشدّدة، يدرك النظام والمعارضة هذه الحقيقة.
المسألة لم تعد ما إذا كان الأسد سيبقى رئيساً لسورية أم لا. باتت القضيّة تتمحور الآن حول آليّة رحيله وجدولها الزمنيّ وطبيعة الترتيبات التي ستتّخذ لضمان عدم استحالة سورية فوضى أو ساحة انتقامٍ محليّة وإقليميّة.
الروس سيصرّون أن لا يبدو رحيل الأسد حصاد قرارٍ خارجيّ. والأميركيون اقتنعوا أنّ رحيله وفق توافقٍ سياسيٍّ شرط لحماية مصالحهم. بالتأكيد ثمّة مواقف إقليميّة مؤثّرة على مآلات الأزمة. لكنّ قراراً روسيّاً أميركيّاً سينجح بالنهاية في بناء الإجماع المطلوب.
في هذا السياق يمكن قراءة إعلان موسكو أنّ واشنطن أقرّت بموقفها الداعي إلى عدم وضع مصير الأسد على جدول المباحثات الآن. مصيره سيُطرح بعد تحديد محطّات المرحلة الانتقاليّة. سيركّز الحديث الآن على تثبيت وقف النار ومعالم النظام السياسيّ المستقبليّ في سورية وثم الخطوات المطلوبة لترجمة هذه المعالم حقيقةً على الأرض.
بعدذاك ستتمّ مناقشة مصير الأسد نتيجةً لحوارٍ سوريّ-سوريّ وليس أمراً مفروضاً بالقوّة من الخارج. ولا يمكن تصوّر أيّ نهايةٍ لهذا النقاش آنذاك غير عدم ترشّح الأسد في انتخاباتٍ مقبلةٍ وبالتّالي خروجه من السلطة. إذذاك يمكن لكلّ طرفٍ أن يدّعي الانتصار. أميركا وحلفاؤها والمعارضة سيعلنون رحيل الأسد نصراً. وروسيا وحلفاؤها سيعلنون خروج الأسد وفق عمليةٍ سياسيةٍ متفقٍ عليها بين السوريّين نصراً أيضاً.
لكنّ المنتصر الأكبر من عمليةٍ كهذه سيكون الشعب السوريّ. فأيّ تسويةٍ سياسيّةٍ تنتهي بنهاية كابوس الأسد أفضل من استمرار الحرب الدماريّة التي يدفع هذا الشعب وحده كلفتها الأعلى.
بالطبع لن يكون التوافق على ماهيّة النظام السوري بعد الأسد سهلاً. ثمّة حقائق على الأرض أوجدتها الحرب الأهليّة البشعة. وتلك حقائق لا يمكن واقعيّاً تجاهلها. فالهدف من أيّ تسويةٍ يجب أن يكون مصالحةً تطمئن كلّ السوريّين إلى أنّ مستقبلهم سيكون آمناً. هل يتأتّى ذلك عبر تواجد قوّات حفظ سلامٍ دوليّة تحفظ الأمن على الأرض، أو عبر قيادةٍ دوليةٍ لعمليّة الانتقال السياسي، أو عبر اعتماد نظام حكمٍ فيدرالي؟ هذه قضايا شائكة لن يكون التوصّل إلى توافقٍ حولها سهلاً.
لكنّ ذلك لن يكون مستحيلاً. إذا حصل التوافق على الوجهة النهائيّة، سيتم الوصول إلى أرضياتٍ مشتركةٍ حول القضايا الأخرى. تحديد الوجهة النهائيّة سيتم عبر الزخم الدوليّ والتزام الأطراف المؤثرة إيجاد حلّ. وسيكون التوافق على تفاصيل خريطة الطريق وليد ذلك التوافق أيضاً.
ثمّة بريق ضوءٍ أنّ المباحثات المرعيّة دوليّاً ستحلّ مكان المدافع أداةً لحسم الصراع في سورية. إبقاء ذلك الضوء متقداً سيتطلّب جهوداً دوليّةً مضنية. لكنّه سيتطلب قبلذاك قراءةً واقعيةً لمسارات الأحداث ونهاياتها المحتملة. هذا يعني أن يقرّ النظام أن لا مكان له في مستقبل سورية، وأن تتقبّل المعارضة أنّ عملية سياسيةً متدرجةً هي الطريق الوحيدة إلى سورية من دون الأسد.
لن يحقّق هذا السيناريو العدالة التي يستحقّها الشعب السوري. لكنّه سيكون خطوةً يبدو أن لا بديل عنها لبناء المستقبل الآمن الكريم الذي ثار من أجله.
عن الغد الاردنية