حتى الآن، ومع مرور قرابة الستة أشهر على اندلاع الانتفاضة، ما زالت هناك وحدة موقف وانسجام بين القيادة والجماهير في الرؤية تجاه المقاومة الشعبية، وتجاه سلمية الانتفاضة، التي هي عنوانها وأسلوبها ووسيلتها.. لكن الانتفاضة بحاجة لقيادة ميدانية وسياسية تولد من رحمها، وتعبّر عنها، فبعد مرور كل هذا الوقت من عمرها، من الملاحظ غياب أية قيادة ميدانية لفعالياتها، فإذا ما استمرت وتصاعدت وتيرتها، من المرجح أن تفرز قيادة جديدة.
ومن الواضح أن البنى السياسية الحالية أخفقت في احتوائها، أو تصعيدها، أو حتى الانخراط فيها بفاعلية، بل بات واضحا أن الانتفاضة تسلك مسارات لا علاقة لها بالمؤسسة الرسمية ولا بالفصائل الوطنية، وأغلب فعالياتها يأتي على شكل مبادرات فردية، كما أظهر بعض فعالياتها حالات تمرد على القيادة، أو تصرف دون انتظار تعليماتها، أو خلافا لتلك التعليمات.
وما يشير إلى حالة التآكل والتكلس في المؤسسات الرسمية ليس فقط إخفاقها في التعامل مع الانتفاضة؛ فما شاهدناه في حراك المعلمين دليل آخر على انعزال المؤسسة الرسمية عن واقعها، حيث ظهر موقف اتحاد المعلمين مغايراً لموقف المعلمين أنفسهم، ما دفع بهم إلى نزع الشرعية عنه، وإيجاد بديل آخر.
وفي آخر مسح أجراه الجهاز المركزي للإحصاء (2015)، أظهرت نتائجه أن 13% فقط من الشباب يشاركون في الحياة العامة؛ أقل من (1.5%) منهم ينتمون لأحزاب أو حركات سياسية.
ومع أن الأرقام تُظهر مدى عزوف الشباب عن الشأن السياسي، إلا أن معظم فعاليات الهبّة الشعبية وعمليات المواجهة والطعن قام بها شبان صغار، وبحالات فردية، فاجأت أقرب المقربين من منفذيها قبل أن تفاجئ أية جهة أخرى.
هذه المعطيات تدل على أن هؤلاء الشبان يعيشون مرحلة تاريخية جديدة، منفصلة، لها خصائصها وسماتها المستقلة؛ حيث نلاحظ وجود مجتمعين منفصلين: المجتمع الرسمي وتمثله السلطة الوطنية بمؤسساتها وأجهزتها ومنظمة التحرير والفصائل الوطنية والأحزاب السياسية، إلى جانب المنظمات الأهلية والنقابية والاتحادات الشعبية، مقابل الجيل الجديد الشاب، الذي بدا من خلال الهبة الجماهيرية منفصلاً عن المجتمع الرسمي، وله مفاهيمه وقيمه ومعاييره ومرجعياته الخاصة به، حتى لو أنها لم تتشكل ولم تنضج إلى الحد الذي يسمح بالإعلان عن ميلادها، إلا أنها في الطور الجنيني، الذي لن يتأخر كثيرا.
وهذه الحالة نتاج لتراكمات جرت في العقدين الماضيين، حيث عانى الشباب من التهميش والإهمال، وغياب أي تخطيط حقيقي بشأن مستقبلهم، وذلك بسبب الممارسات الإسرائيلية القمعية، وبسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني بأكمله، وبسبب إهمال المؤسسات الرسمية لهم. وهناك جملة من الأسباب عمقت من هذه الحالة؛ أبرزها غياب الأمل في التغيير، بعد سلسلة من الإخفاقات والتراجع والانغلاق في المشهد السياسي، وأيضا انعدام الرؤية الواضحة ليس من قبل الشباب أنفسهم وحسب؛ بل وحتى لدى المؤسسات الرسمية والأهلية، وغياب البدائل المقنعة، إضافة إلى الإلحاح اليومي لتأمين متطلبات الحياة الأساسية، وربما لأسباب أخرى ناجمة عن سياسة التهميش من قبل الأحزاب السياسية، والجمود الفكري والإيديولوجي الذي تعاني منه تلك الأحزاب، بحيث أن أفكارها وبرامجها لم تعد مغرية أو حتى تسترعي انتباه الشباب.
وهكذا، تُرك هذا الجيل وحيداً، ليكبر دون توجيه، دون تنظيم سياسي يحتويه، ودون مثل أعلى، أو زعيم ملهم، اليوم، ومن خلال الهبة الشعبية نرى بطولات فردية، ربما لأن هؤلاء الشباب من الجيل الجديد رغبوا أن يثبتوا لأنفسهم أولاً أنهم قادرون على خلق قصص بطولة لا تقل عن تلك التي سمعوها وهم صغار.
وربما لأنهم لم يسمعوا بأي قصص بطولة، فأرادوا صنعها بأنفسهم، ولا غرابة في ذلك؛ فلديهم طاقة كبيرة، وفرصة لإثبات حضورهم. وما يحرّضهم على الخروج ليس صعوبة الأوضاع الاقتصادية، ولا البطالة، رغم أن الغلاء أرهق أسرهم، والبطالة تخيفهم، لكنهم خرجوا لأسباب ودوافع كثيرة: الحواجز والطرق الالتفافية، استفزازات المستوطنين، أصحابهم الذين استشهدوا مبكرا، آباؤهم الذين يرونهم يهرمون سريعا، وطنهم الذي يصغُر في أعينهم بسبب الانقسام، وبسبب قضم أطرافه من قبل الاحتلال، مستقبلهم المجهول.
انسداد الأفق السياسي أخرجهم غاضبين؛ ليس لأن ذلك أفقدهم الأمل وحسب؛ بل لأنهم لم يروا فعلا ثوريا يعمل على فتح كوّة فيه؛ فقد غابت البنادق التي كانت تفتح الآفاق، وغاب الخطاب الثوري التعبوي، وجاءت بدلا منها خطط التنمية في اقتصاد تابع شبه مشلول، حتى الآفاق الداخلية سدها البعض منا؛ فقد تعطلت المصالحة، وتوقفت الانتخابات، وتوقفت ديناميكية المجتمع.
وفي تحليل للباحث "ماجد كيالي" خلص بنتيجة مفادها أن هذه الانتفاضة توفر البيئة المناسبة لخروج قيادات فلسطينية شابة تجدد روح الكفاح الوطني، وتبعث الحياة في أوصال البنى التنظيمية للأحزاب والفصائل ومؤسسات منظمة التحرير بعد أن أصابها التكلس والوهن. وحسب رأيه، فإن القيادة الحالية الهرمة تكافح بعناد للإبقاء على الوضع الراهن، والحيلولة دون تجديد القيادة.
ويضيف "كيالي": "بالمحصلة، فالوضع الفلسطيني اليوم يقف إزاء جيلين، الأول بين الـ15 والـ25، والثاني في أواخر الستينيات والسبعينيات، أي بين جيل فتي وشاب، وجيل ولغ في الشيخوخة، علماً أن هذا لا ينطبق على العمر فقط، إذ إنه يشمل الأهلية النضالية وأنماط التفكير، وطرق العمل. فنحن إزاء جيل يعيش على القديم، وجيل يتوق إلى التحرر من كل شيء، وقلب الطاولة على كل شيء".
مع الوقت، ستطور الانتفاضة ذاتها بذاتها، وفق الطاقة المختزنة عند الشبان، ووفقا لمنطق التاريخ، وربما تكراراً لما حدث مع القيادة التقليدية التي برزت في الثلاثينيات والأربعينيات ثم تحولت إلى هيئات رسمية متكلسة، مثل حكومة عموم فلسطين، والهيئة العربية العليا، والتي سرعان ما حل محلها الجيل الذي أسس منظمة التحرير، ثم بعد سنوات قليلة من تأسيسها، وعلى أثر الهزة العنيفة التي خلفتها نكسة حزيران، برز جيل جديد ونوعية جديدة من القيادة الفلسطينية، استطاعت تسلم قيادة المنظمة، وبث روح نضالية ثورية، وخطاب سياسي جديد. فهل نحن على موعد مع التغيير، وهل سنشهد ميلاد حركة وطنية جديدة ؟!
سؤال سيجيب عنه جيل الانتفاضة، أو جيل "أوسلو"، كما يسميه البعض.