رنا القنبر
عندما يخذل الشّتاء الأطفال
الياسمين يحاور مواسم الصّقيع والحزن مجدّدا، ينادي الفرح ولا يستقيل حتى بعد سقوطه على أعتاب جراحه، إنّه الفلسطينيّ المعذّب وذاكرة أطفال ما لبثوا أن كانوا أطفالا، حتى كبروا مع أنين الثكالى والمقهورين، مع صرخات وطن مبتورة أطرافه، كما قالوا الكتابة تنشأ من الفقدان، نعم فقدنا ما نحبّ ومن نحبّ في ظلّ معركة غير عادلة، أبطالها أطفال كبروا وتجرّعوا الحسرات تلو الحسرات، الطفلة شهد محمد تحاور كلّ ما هو مقيم داخلنا نحن الفلسطينيين، كتبت المتوقّع والهواجس التي لازالت تعترينا كلما رأيناهم في بدلاتهم الخضراء، الماء و"الأكامول" مسكّنات لآلام الأسرى، ومسكّناتنا نحن الانتظار والأمل فجمعينا أسرى، أسرى جراحنا وذكرياتنا، والسّجان نفسه عدوّ لا يفهم سوى لغة الدّم، والتّعذيب، والحرمان.
بدأت معانات الطفلة ياسمين وهي في السّابعة من عمرها بعد اقتحام منزلها واعتقال أخيها الكبير حسام، بعد أن كان مطاردا، وبعيونها التي تتربّص كلّ ما يدور حولها دوّنت ما حدث ذلك اليوم الشّتائي الحزين، الأسلحة والقنابل والدّمى المهشّمة حصيدة ما تبقى من ذاكرة، فارث الطفولة لم يسلم من الأيادي حاقدة، فتقوم ياسمين بمحاولة اصلاح الدّمى التي اشتراها لها حسام، وتكبر ولا زالت دمى الطفولة مهشّمة وأصوات حقدهم تدور وتدور في رأسها . فتضعنا الكاتبة أمام التّأثير النّفسيّ وأبعاده على الطفل الفلسطينيّ، والمشاهد الذي يراها يوميّا وكلّ هذا كفيل بأن يزعزع أمنه واستقراره النّفسيّ، فالطفل الفلسطينيّ يتجرّع منذ صغره كأس المعاناة ومرارة الواقع الأليم.
نقلت إلينا معاناة الأسرى في سجون الاحتلال ومعاناة ذويهم في الزيارات والانتظار، وهنا تمنّيت لو أشارت الكاتبة إلى ما يحدث داخل السّجون على لسان حسام، ولو بنبذة صغيرة تنقل إلينا واقعهم المرير، خصوصا وأنّ القصة تسلّط الضّوء عليهم، من خلال حكاية أسير اعتقل لمدّة أحد عشر عاما ..ولكن القصة مكتملة بجميع عناصرها والسرد جميل وسلس، تحدّثت الكاتبة عن معاناة أمّ الأسير المريضة، والتي ربّما تموت في أيّ لحظة دون أن ترى فلذة كبدها، وذلك يحدث كثيرا، وأحيانا العكس حيث يموت الأسير داخل السّجون قبل أن يرى والدته وتراه، استطاعت شهد أن تحاور جلادها بالأمل وتتمرّد على واقعها بالفرح، فالأعراس الفلسطينيّة في ظلّ الاحتلال والأسر هي رسالة تحدٍ، فالفرح والزغاريد لا يمكنهما مغادرة البيت الفلسطينيّ، فتضعنا الكاتبة أمام الفلسطينيّ المحبّ للحياة، ويمارس حياته الطبيعيّة رغم الظروف والمحن.
الكتب والحوارات الأدبية ومواصلة حسام الأسير المحرّر لتعليمه الجامعي، رغم تجاربه القاسية هي لفتة جميلة من الكاتبة، فأظهرت الصّورة الايجابية للشّباب الفلسطينيّ الواعي والمثقّف. وصورة الأخ المحبّ الذي يفرح لفرح أخيه بل وأكثر رغم معاناته في الأسر،ولم تنس الكاتبة الاستعانة بالحكاية الشعبيّة والحديث عن أجواء العائلة والمشاكسات وروح الدّعابة في البيت الفلسطينيّ.
الشّتاء وخذلانه والحزن والفرح والسّعادة التي لا تكتمل، وولادتها مجدّدا من رحم الأحزان والمآسي، فالأرض لا زالت تنجب، بهذا لخصت الكاتبة أحداث قصّتها الصّغيرة.
لم تكن النّهاية كما توقّعت، ولكن لكي أكون منصفة لجيل الكاتبة الصّغير سأقول: "من لم يمت بالسّيف مات بغيره" مع أنّني تمنّيت أن تكون النّهاية أجمل من ذلك.
أودّ التّنبيه لعبارة ذكرت بالقصة وهي كلمة "معبر" الأفضل لو قالت حاجزا، فالحاجز هي الكلمة الصحيحة، وهي تعبّر عن قساوة ما صنعه الاحتلال، فهناك تجتجز أحلامنا، وهناك ضاقت بنا السّبل.
وأخيرا أن تكتب طفلة بهذا العمر قصّة جميلة من حيث السّرد والمضمون، وعناصرها المكتملة، فهذا يعني أنّنا أمام جيل يعي تماما كلّ ما يدور حوله، جيل يعرف الشّكل الآخر للمقاومة، جيل القلم والفكر.