دوافع العمليات الانتحارية

1-7-300x202
حجم الخط

في الأسابيع القليلة الماضية اتسعت رقعة العمليات الإرهابية، وتصاعدت على نحو خطير؛ في بداية هذا لأسبوع أعلنت «جماعة الأحرار» التابع لحركة طالبان مسؤوليتها عن هجوم انتحاري أودى بحياة 65 شخصاً في مدينة «لاهور» الباكستانية، وفي الباكستان أيضا وقبلها بأيام قُتل 15 شخصا في تفجير في حافلة في مدينة «بيشاور»، وقبلها بشهر فجَّر مسلحون من حركة طالبان مدرسة حكومية بنيت حديثا في منطقة «وزيرستان». وقبل أيام قُتل 32 مواطنا عراقيا أغلبهم أطفال، حين فجّر انتحاري نفسه في ملعب شعبي في محافظة «بابل» خلال بطولة محلية لكرة القدم. وأعلنت داعش في بيان لها مسؤوليتها عن العملية. وفي منتصف آذار الحالي قُتل أربعة أشخاص في تفجير انتحاري وسط «إسطنبول»، تبنته داعش. وفي تشرين الأول، فجَّر انتحاريان نفسيهما وسط حشد من الأكراد أمام محطة القطارات في «أنقرة»، ما أدى إلى مقتل أكثر من مائة شخص، ثم في كانون الثاني فجر انتحاري آخر نفسه قرب المسجد الأزرق في «إسطنبول»؛ ما أسفر عن مقتل 12 سائحا ألمانيا ...إلخ. مع هذه الموجة المحمومة من الإرهاب الدموي، يعود السؤال مجددا: من المسؤول عن ذلك؟ كالعادة، سيستهل الكثيرون الإجابة، بحصرها في عامل واحد، وهذا العامل سيختلف من جهة لأخرى، بحسب منطلقات من يتصدى للإجابة، عموما ستعتبر الأغلبية أن الفقر هو المسؤول الأول عن تفريخ المجموعات الإرهابية. وسيعتبر آخرون أن «العشوائيات» هي البيئة المثالية لإنتاج الإرهاب. وآخرون سيقولون إن البطالة والفراغ هما السبب. فيما سيُرجع غيرهم السبب إلى الجهل والأمية والتسرب من المدارس. وآخرون سيُرجعون السبب إلى عدم إندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية، خاصة بعد خروج مئات الإرهابيين من «الأحياء الإسلامية» في المدن الأوروبية (حي مولينبك مثالا). ومن جهة أخرى، كثيرون سيرفضون التحليلات السابقة، وسيحصرون الموضوع بأكمله في «المؤامرة»؛ أي مؤامرة الغرب الهادفة إلى تشويه الإسلام، وإظهار وجه إرهابي مخيف له، وذلك باختلاق ودعم الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها داعش، ومن قبلها تنظيم القاعدة. أو هي حسب آخرين، عبارة عن تنظيمات وأسماء أنتجتها المخابرات العربية (خصوصا السورية) لتوظيفها في الصراعات الداخلية، أي أن القضية أمنية مخابراتية بحتة، وكل ما يجري إنما هو من تخطيط المخابرات الأميركية والإسرائيلية والإيرانية، والمسلمون بريئون تماما من هذه التهمة. آخرون يرفضون نظرية المؤامرة، ويرون أن بروز الجماعات الجهادية المتشددة، هو رد فعل «طبيعي» على الإرهاب الأميركي والصهيوني، والتواطؤ العالمي مع هذا الإرهاب، أو هو نتاج متوقع لسياسات التهميش والإقصاء والقمع السلطوي التي انتهجتها الأنظمة العربية، وحرمت بسببها الشرائح الاجتماعية المقهورة من التعبير عن ذاتها، فوجدت الأخيرة في الخطاب المتشدد متنفسا لها، ما دفعها للانضمام تدريجيا إلى الجماعات الأصولية. قد تكون جميع التحليلات السابقة صحيحة نسبيا، ولكن حصر ظاهرة الإرهاب بعامل واحد فقط، بالإضافة لكونه خطأ منهجيا وعلميا، فإنه سيجعلنا عاجزين عن فهم الظاهرة فهما صحيحا؛ وبالتالي سنظل عاجزين عن إيجاد أي حل لها. وستظل المجموعات الإرهابية تتوالد، وسنظل نسمع عن العمليات الانتحارية، إلى أن تطالنا إحداها.. المدخل السليم لتفكيك لغز الإرهاب، هو إيجاد قاسم مشترك أعظم يربط بين كل العوامل السابقة، بل ويتفوق عليها بأهميته وحضوره، وقبل ذلك نحتاج تفنيد كل عامل على حدة؛ فمثلا، إلصاق التهمة بالفقر، فضلا عن كونه إساءة للفقراء، الذين يتحملون بصبر ونبل أوزار المجتمعات والأنظمة، هو فهم قاصر، لأن الفقر لا يساوي الإرهاب بالضرورة. وبالمثل سنجد أن العشوائيات أنتجت أدباء وعلماء وفنانين، وأيضا فإن مئات الآلاف من المتعطلين عن العمل، والفاقدين كل أمل، القابعين على هوامش المجتمعات، وعلى حواف اليأس لم يدفعهم كل ذلك لأي عمل عنيف، بل ورفضوا بوجدانهم وضمائرهم كل المنظمات الإرهابية، وكذلك ملايين الأميين والمحرومين من مدارسهم وضحايا الحروب والفارين من جحيم المعارك واللاجئين، كل هؤلاء لم يتخلوا عن إنسانيتهم، وظلوا أناسا طيبين. وحتى الجاليات المسلمة وغير المسلمة في المدن الأوروبية، ورغم عدم اندماجها في الحياة الغربية، إلا أنها لم تلجأ بالعموم للتطرف والإرهاب. فمن أين جاء هؤلاء ؟ وأية بيئة أنتجتهم ؟ وبتحليل إحصائي سنجد أن أكثرهم عازبون، وأعمارهم دون الثلاثين. منهم جامعيون، معدمون وأثرياء، من عائلات برجوازية ومتعلمة، من العشوائيات والأحياء الفقيرة والراقية، من الصحارى، ومن قلب المدن الأوروبية، حِرفيون ومهندسون وخبراء اتصالات وأطباء، وعاطلون عن العمل، عرب وأجانب، من بيئات مكبوتة جنسيا، ومن أخرى مفتوحة على مصراعيها على الجنس .. بتتبع القاسم المشترك، سنجد أن جميع هؤلاء تعرضوا لأشكال ومستويات متباينة من غسيل الدماغ، بدأ منذ نعومة أظافرهم، وتطور في مراحل لاحقة، بدأ في المناهج التعليمية في المدارس والمعاهد الدينية، بدأ بجمل بسيطة لا ينتبه إليها أحد؛ مثلا: «المسلم نظيف، يغسل يديه بعد تناول الطعام»، فينمو في عقل الطفل الباطن أن المسلم نظيف، وغير المسلم قذر، ثم يتطور الأمر في المعاهد الشرعية لنقرأ مثلا: «يجوز للمسلم سبي نساء العدو واستعباد أطفالهم»، ثم تكتمل العملية في المساجد، حيث يدعو الخطيب بكل فصاحة اللغة: «اللهم عليك بالصابئة والرافضة والشيعة والنصارى واليهود ووو.. اللهم شتت شملهم، واجعل دماءهم تجري بين أيدي المسلمين». باختصار، منابع وجذور التطرف والإرهاب ليست المناطق المهمشة، بل هي في الأساس من الأيديولوجية المتطرفة التي استطاعت أن تتغلغل في العقود الماضية إلى المناهج المدرسية، والمساجد والجامعات وعشرات الجمعيات التي تتسربل بتحفيظ القرآن، حتى أنتجت جيلاً كاملاً لا يعرف إلا منهج الطائفية والولاء والبراء والتكفير ونبذ الآخر وشيطنته. وكل من تجد هذه الأفكار المتطرفة صدى في نفسيته المضطربة، أو يجد لها قبولا في عقله المريض، وتعبيرا عن شخصيته الموتورة والمكبوتة والمأزومة، وكل من يبحث عن الشهرة والمغامرة والانتقام، أيٍ من هؤلاء، كل ما عليه أن يعبر الحدود التركية ليصبح إرهابيا، بغض النظر عن بيئته الاجتماعية. المخابرات «العدوة» ممكن أن تنظم أشخاصا وقيادات، وتقدم تسهيلات لوجستية؛ لكن الأفكار المتطرفة إنتاج محلي صرف.