المتابع للإعلام الفلسطيني على مختلف منابره واتجاهاته سواء الرسمي أم الحزبي أم الخاص، يكتشف بسرعة كبيرة أننا لا نعرف كيف نعرض وضعنا وما نمر به نتيجة للاحتلال والعدوان الإسرائيلي المستمر منذ حوالي نصف قرن والصراع المستمر منذ قرن، ويبدو أننا لا نميز بين كوننا ضحية أم أبطالا نبادر للحرب. فالصور التي تعرض على شاشات التلفزة التي تشرح الأعمال البطولية وتمجدها وحالة الهيجان المبالغ فيها بما في ذلك الصور المأساوية لأمهات الشهداء وهن يزغردن والأقارب الذين يوزعون الحلوى على خبر الاستشهاد أو في الجنازات، لا تعكس بأي حال إدراكاً لحجم المصاب والكارثة التي تلحق بالعائلات وتحديداً الأمهات الثكلى وبالمجتمع الفلسطيني الذي يفقد يومياً شباناً وأطفالاً في عمر الورد، يقتلون بدم بارد على أيدي جنود جيش الاحتلال وقوات شرطته ومستوطنيه وحتى ممرضيه. فاصبحنا نفاخر بعدد الشهداء الآخذ في الازدياد يوماً بعد يوم وتتبارى الفصائل في تسجيل أكبر عدد منهم، وتحول الشهداء الى مجرد أرقام تبرز عظمة البطولة. ولا أحد يسأل نفسه إلى أين نحن ذاهبون، وما هي الرسالة التي نريد أن نوصلها لشعبنا أولاً ولأشقائنا وأصدقائنا وحتى أعدائنا في كل أرجاء الأرض. نحن ضحية ويجب أن نظهر دوماً كضحية لاحتلال بشع ومجرم. نحن بهذه الفوضى نخدم أعداءنا الذين يستغلون سذاجتنا وانجرارنا وراء مشاعر وشعارات لا تعكس الواقع، ونقدم لهم على طبق من فضة مادة غنية ليتهمونا من خلالها بتهم عديدة أقلها التحريض على العنف، ونذهب إلى مستوى أننا نرسل أبناءنا للموت المحقق ونفرح لموتهم ونحتفل به في «أعراس الشهادة». وهناك المئات من الصور التي توزعها إسرائيل في مختلف أرجاء العالم والتي لا تخدم نضالنا ضد الاحتلال ولا تظهرنا كضحية له. على عكس ما تقوم به السلطات الإسرائيلية التي برغم قيامها بإعدام أطفالنا وشبابنا بشكل واضح وقاطع وموثق في كثير من الأحيان، تحاول أن تظهر جنودها ومواطنيها باعتبارهم ضحية لإرهاب الفلسطينيين الذين يريدون قتلهم والقضاء عليهم وأنهم مساكين يدافعون عن أنفسهم في وجه البربرية الفلسطينية. ولعل قضية الجندي الإسرائيلي الذي أعدم الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل هي نموذج لجدل داخلي حول الصورة التي يجب أن تظهر بها إسرائيل بالرغم من أنها اثارت جدلاً أكثر عمقاً حول الجيش الإسرائيلي. فاعتقال الجندي لا يعكس انتصاراً للحق الفلسطيني على أساس أن جيش الاحتلال يهتم بحقوق الإنسان ويراعيها في عمليات إطلاق النار ويستهدف فقط الدفاع عن النفس، بل هي ترتبط بقضية جوهرية هي من الذي يحدد القواعد والأوامر في الجيش، هل هم قادة الجيش أم السياسيون ورجال الدين الذين ينتمى الجنود لهم. ولكن في كل النقاشات برزت حالة غير مسبوقة للدفاع عن الجندي باعتباره يدافع عن إسرائيل وما قام به لا يستحق العقوبة عليه حتى لو قتل فلسطينيا، وهناك من يحاول أن يظهر أنه فعل ما فعل لأنه لا يستطيع أن يجازف بوجود حزام ناسف على الشاب الشهيد رغم أن هذه الرواية قد تم دحضها بشهادة الجنود والضباط الذين فحصوا الشاب قبل أن يقتله هذا الجندي المجرم. نحن نختلف عن إسرائيل لأننا لا نمثل قوة احتلال ولأننا نملك الحق القانوني والأخلاقي في الدفاع عن حقوقنا وأولها التخلص من الاحتلال، وبالتالي لا مقارنة بين ما تقوم به إسرائيل وما يقوم به الفلسطينيون حتى لو استخدموا العنف والسلاح. ولكن من المهم أيضاً ألا تضيع الأرواح والدماء بدون جدوى وأن لا تحقق إنجازاً للقضية الوطنية. فعمليات الطعن التي استمرت لشهور طويلة أوصلت رسالة للإسرائيليين وللعالم أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر وأن إسرائيل لا يمكنها أن تواصل احتلالها واستيطانها وتحصل على الأمن، وأن الأمن والاستقرار مرتبطان بالاتفاق وبحصول التسوية السياسية وليس بإجراءات عسكرية احتلالية من أي نوع. ولهذا ينبغي البحث عن وسيلة أخرى للنضال لتعميق مأزق الاحتلال الأخلاقي والسياسي على السواء. وهذا ليس لأننا نتبنى رواية إسرائيل أو لأننا نريد التخفيف عنها، بل لأننا ينبغي أن نحافظ على حياة أطفالنا وشبابنا ونعمل على توفير مستقبل آمن لهم. آن الأوان لأن نجري بحثاً عميقاً في هذا الأسلوب الكفاحي المتبع يتضمن فحص الربح والخسارة، للوصول إلى استنتاجات محددة حول وجهتنا المستقبلية. وهنا قد يقول قائل إن هؤلاء الشبان والأطفال قد فقدوا الثقة بالقيادة وفعلوا ما يعتقدون أنه واجب عليهم لتغيير الوقع لأنهم سئموا الحياة بهذه الطريقة التي لا يوجد فيها أمل ولا مستقبل واضح. وهذا صحيح إلى حد بعيد، ولكن ما هي مسؤولية الأحزاب والقوى السياسية والقيادات على مختلف مستوياتها؟ هل تترك شبابنا في هذه المحنة وتحاول الاستفادة منه لأغراض الدعاية وتبرير الوجود؟ أم تأخذ زمام المبادرة وتسعى للتأثير على مجريات الأمور وحماية شبابنا من الأذى وعمليات القتل اليومية التي تمارسها إسرائيل؟ في الواقع نحن نعيش واقعاً مأساوياً على مستوى الفعل القيادي السياسي وهذا يشمل السلطة والمنظمة والمعارضة بكل أطيافها، ونحن في حالة أشبه بعملية بيع تصفيات إغلاق شركة أو محل تجاري: كثيرون يريدون تحقيق ما يمكن من هذه التصفيات ولا رؤية لما يمكن أن يحدث بعد ذلك، بل ربما لم يعد مهماً على الإطلاق التفكير بالمستقبل المتروك لما يمكن أن ينتج أساساً عن الواقع على الأرض وهو يقضم بشكل تدريجي حقوقنا وخاصة في الأرض التي تخضع للمصادرة والاستيطان المكثف. ولكن لا تزال هناك فسحة لفعل ما يغير سيرورة الأحداث.