في 30 آذار 1976 كان يوم الأرض الأول، كان اسمه ولا يزال يرتبط بالانتماء إلى أرض الوطن والدفاع عنها ضد اغتصابها كما اغتصب كل شيء. وكان ذلك اليوم ولا يزال يمثل ملمحاً مركزياً ومحطة محورية في النضال الوطني الفلسطيني على امتداد كل أرض الوطن. صحيح أن الحدث المباشر في ذلك اليوم كان احتجاجاً على قرار حكومة الاحتلال مصادرة مساحات كبيرة من أراضي «البطوف» في الجليل، لكن مفاعيله والتجاوب معه انتشر على مساحة الوطن كله، وفي كل شتات يوجد فيه تجمع فلسطيني.
منظمة التحرير تبنت الحدث وتبنت مطاليبه وكان المهرجان الجماهيري المهيب في بيروت بحضور الشهيد ابو عمار وكل قادة الفصائل الفلسطينية.
في ذلك اليوم توحد كل الشعب الفلسطيني ووقف على قلب رجل واحد يشارك بالحدث مدافعاً عن الأرض كل في موقعه وبما ملكت يده، في واحدة من أبهى صور وتجليات وحدته النضالية والسياسية. وجاء الدم الطاهر البريء لستة شهداء الذي سفح ليعطي ذلك اليوم عمقه النضالي، كما قداسته.
كان ذلك اليوم على تميزه، واحداً من أيام المعارك المتواصلة دفاعاً عن الأرض.
فقد ظل هدف الاستيلاء على الأرض وطرد أهلها منها نقطة المركز وحجر الزاوية في المشروع الصهيوني الإحلالي، منذ بذرته الأولى. وانضوى في ذلك الهدف الدافع الديني التوراتي مع الدافع السياسي الكياني الدولاتي، وأيضاً مع الوظيفة الموكولة للكيان القيام بها في المنطقة، ولا يزال الأمر على هذا الحال حتى الآن.
هذا العام تحل الذكرى الأربعون ليوم الأرض المجيد والحال ليس هو الحال.
الحال اليوم بالمجمل والمحصلة، لا يسرّ، هذا اذا أردنا تجنب وصفه بالمترادفات الجاهزة: سيئ، متردٍ، ومحبط... وأخواتها.
لم يعد الانقسام بترجماته ومفاعيله على كل الأصعدة التعبير الوحيد على واقع الحال، مع التأكيد انه يبقى التعبير الأهم والمسؤول الأول عنه. (ألا يسترعي الانتباه والتساؤل أن جولة الحوار الأخيرة لإنهاء الانقسام بالدوحة لم تحظَ بأي اهتمام ومتابعة جماهيرية، ولا هي حظيت بالتغطية الإعلامية ولو بالحد الأدنى)؟
من بين تعبيرات أُخرى على واقع الحال يمكن انتقاء تعبيرين.
التعبير الأول، وهو جوهر مناسبة يوم الأرض، والمقصود به التسرب الخطير للأرض بتسارع غير مسبوق.
نحن نعيش ونرى بعيون مفتوحة أن الأرض في الضفة الغربية تقضم بتسارع استثنائي لصالح التوسع غير المسبوق للاستيطان، ولأهداف حيوية لصالح دولة الاحتلال، وأنها في مناطق 1948 تسرق لصالح مشاريع تتعلق أساساً بالتوسع السكاني الاحتلالي أو لمجرد السرقة لتقليص المساحة الفلسطينية ومنع التمدد العمراني للفلسطينيين في أراضيهم لتلبية احتياجات التنامي الطبيعي.
تكفي الإشارة إلى أنه في الأسابيع الأخيرة فقط تم الاستيلاء على 2800 دونم في غور الضفة الغربية قرب أريحا، ثم على 1300 دونم بالقرب من نابلس ( كم آلاف الدونمات أبقت أوسلو أصلا لأهل الضفة بالذات بعد تقسيمات ب & ج). وأنه في النقب تم الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي على انقاض قرية أُم الحيران الفلسطينية نفسها ومن حياضها من الأراضي، وذلك لصالح بناء بلدة كبيرة ذات طابع يهودي صرف ومؤمن لها كل الخدمات ووسائل الترفيه.
المجريات اليومية للاستيلاء على الأرض، تؤكد أن دولة الاحتلال وأجهزتها المتخصصة وحركة الاستيطان فيها تقوم بالاستيلاء على الأرض بنفس خلفياتها التوراتية ونفس دوافعها في بداياتها الأولى. وهي تخدم في نفس الوقت موقفها المبدئي الثابت الرافض لقيام دولة فلسطينية مهما كانت حدودها وطبيعتها ودورها.
إن تواصل الاستيلاء على أراضي الضفة بهذا التسارع يجعل المطالبة بدولة فلسطينية كالدعوة إلى بناء قصر في الهواء حين تفقد المطالبة الأرض التي يمكن أن تقوم عليها الدولة، ويضعف من جهة أُخرى، مطالبة وضغوط المجتمع الدولي بدولة للفلسطينيين نزولاً عند حقائق الأمر الواقع. ويجعل من جهة ثالثة من يتبقى من أهل الأرض المقيمين فيها يعيشون فيما يشبه المعازل المتكدسة بالسكان بلا محيط حيوي او خدمات أو موارد تقوم عليها. وكل ذلك يسعى في النهاية الى بقاء دولة واحدة يهودية فقط على أرض فلسطين بنظام التفرقة العنصرية الأبارتهايد ضد أهلها الأصليين.
التعبير الثاني، هو التفاعل مع الهبة الجماهيرية المباركة. بالتأكيد إن الهبة الجماهيرية عمل عظيم ومقاومة بطولية وأصيلة للاحتلال وسياساته، تلحق الأذى بدولة الاحتلال وصورتها، وتزرع الخوف في نفوس قواه وأجهزته. والمقصود هنا أن النظام السياسي الفلسطيني لا يزال عاجزاً عن التفاعل مع هذه الهبة بالشكل السليم والمطلوب بما يحولها من فعل شباب فردي عفوي ومقتحم، إلى انتفاضة جماهيرية منظمة بآليات ومطالب محددة وذات طابع شعبي. لا يزال دور التنظيمات يقتصر على البيانات، ومسيرات التأييد محدودة العدد تدعو لها التنظيمات، في الغالب كلّ على انفراد، أو على المطالبات العامة، أو على المشاركة بجنازات الشهداء كل تحت علم تنظيمه الخاص.
لماذا التلطّي وراء الانقسام؟ هل عدم القدرة على التوصل إلى الإنهاء التام للانقسام يمنع الاتفاق على أمور وأهداف ومسؤوليات محددة؟ وهل يمنع بالتحديد اتفاق التنظيمات على تشكيل قيادة او حتى هيئة موحدة تتعامل مع الهبة الجماهيرية؟
في التعبيرات الثلاثة: الانقسام وقضم الأرض والهبة الجماهيرية، يغيب الزخم الجماهيري. لقد اشتاقت شوارع وساحات مدن وبلدات فلسطين إلى الحشود الجماهيرية بعشرات الآلاف، وربما اكثر، تضم الكل بلا تمييز وتحت علم واحد فقط هو العلم الوطني.