في تاريخ الشرق الأوسط الحديث الكثير من الأساطير المتوارثة شفهياً من جيلِ الى جيل، تحوّلت مع مرور الزمن من خيال شعبي أو «ثرثرة» يتم تناقلها في أزقة المدن إلى حديث نخبوي في صالونات المجتمع، ومن ثم الى حكايات «موثقة» يتعامل معها الناس وكأنها عين الصواب ونِبراس الحقيقة.
كثير من الساسة السوريين يقسمون أنهم سهروا مع الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل وفاته بليلة، وسمعوا منه قصصاً وحكايا لا يعرفها إلا سواهما. ويكاد كل سياسي فلسطيني قابلته يجزم أنه آخر من تحدث مع الرئيس الراحل ياسر عرفات قبل سفره لتلقي العلاج في باريس العام 2004. من يستطيع أن يخالف رواية شاهد عيان عن شخصية تاريخية فارقت عالمنا، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها وتثبت أو تخالف ما يُقال عنها بعد الممات؟ آخر هذه التجارب كانت في وثائقي يعرض حالياً على قناة «الميادين» عن غزو لبنان، قيل فيه إن الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل زار دمشق سراً بعد انتخابه العام 1982 وقابل الأسد. المعلومة غير مسندة تاريخياً ولا وجود لها في السجلات السورية واللبنانية وحتى الإسرائيلية، لكن جمهور وسائل التواصل الاجتماعي بدأ التعامل معها كما لو كانت حقيقة تاريخية، قريباً سنراها مدوّنة في كتب التاريخ.
على مدى عشرين سنة، عملت كمؤرخ على سماع وتدوين مئات الشهادات التاريخية لرجال كبار في بيروت ودمشق. بعضهم كان صانع أحداث بجدارة، كرئيس أو وزير أو سفير، والبعض الآخر كان مجرد «شاهد على العصر» من زاويته الحياتية. إذ قد يكون بائع جرائد بسيط في سوق الحميدية، أو قناصاً في إحدى ميليشيات الحرب اللبنانية، أو سائق تاكسي في شارع الحمرا، أو نادلاً في أحد مطاعم طريق الربوة الدمشقي. ولعل أن أشهر مؤرخ لمدينة دمشق في القرن الثامن عشر كان «البديري الحلاق»، وهو حلاق دمشقي بسيط قرر تسجيل ما يدور حوله من أحداث يومية، من موقع بسطاء المدينة وفقرائها، فنقل صورة قاسية عن باشاوات دمشق وأعيانها، وهذا من حقه طبعاً لأنه لم يدّع قط أنه مؤرخ أو خبير. ولو فكر أحد من هؤلاء الباشاوات بكتابة روايته لأحداث دمشق اليومية، لكان روى القصة بشكل مختلف تماماً.
علّمتني التجربة أن احترم التاريخ الشفهي، ولكن أن أتعامل معه بكثير من الحذر، لأن هامش التبهير والإغفال والخطأ (المقصود منه والعفوي) واسع للغاية، تحديداً عند مقابلة أقرباء شخصية تاريخية معينة لا ترى في سلفها إلا أبهى حالات الوطنية والإنسانية والأخلاق، وترفض الاعترف أنه أخطأ ولو لمرة في حياته. وقد جاءت المسلسلات الدرامية والأفلام الوثائقية العربية الموجهة لتكمل في تعظيم تلك الشخصيات وتضعها في مقام الملائكة والقديسين، من أم كلثوم وأسمهان وصباح مروراً بأنور السادات وجمال عبد الناصر والملك فاروق ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم.
لقد تعاملنا مع جميع تلك الشخصيات والقصص كما لو كانت «قرآن التاريخ»، ولم نفرق يوماً بين الحقيقة والخيال الوطني والشخصي. أذكر هنا، على سبيل المثال، قصة الجنرال الفرنسي هنري غورو الذي قيل إنه ذهب مباشرة فور احتلاله دمشق العام 1920 إلى قبر صلاح الدين وقال: «ها قد عدنا يا صلاح الدين، وجودي هنا يكرس انتصار الصليب على الهلال». لا توجد صورة بالمطلق للجنرال الفرنسي عند هذا الضريح، وهو أمر غريب لأن الجنرال غورو كان مصوّراً، يعشق التقاط الصور لنفسه ولما يدور حوله، ومجموعته الكاملة موجودة في وزارة الخارجية الفرنسية بباريس حتى اليوم. ولا ذكر لهذه الزيارة أو لهذا الكلام في مذكرات الرجل أو في أي جريدة فرنسية أو سورية لعام 1920. فمن أين أتت هذه القصة «الموثقة» لدى الناس، وكيف تداولها الدمشقيون من جيل إلى جيل، وكأنها عين الصواب لا نقاش حولها؟
ثمة قصص أخرى على هذه الشاكلة، دخلت الذاكرة الشعبية وهي مجرد خيال. قيل مثلاً إن الرئيس فارس الخوري دخل الجامع الأموي الكبير في دمشق ونطق الشهادتين من على منبره دفاعاً عن مسلمي المدينة، وهذه القصة حكماً من خيال الناس، والسبب وراءها أن علماء دمشق المسلمين قاموا يوم وفاة الرئيس الخوري العام 1962 بقراءة آية من الذكر الحكيم في مجلس عزائه، تكريماً له، من دون أن يعني ذلك أنه اعتنق الإسلام ومات مسلماً. والأساطير لا تنتهي عند هذا الحدّ، فمنها ما يفيد مثلاً بأن ميشال عفلق اعتنق الإسلام أيضاً وأن جمال عبد الناصر مات وليس في جيبه إلا قروش، وكأن أحداً قد أفرغ ما في جيب الرئيس الراحل قبل دفنه، وأن المطرب الكبير صباح فخري دخل موسوعة «غينيس» لغنائه 10 ساعات متواصلة على المسرح العام 1968. أتحدى أحداً من الرواة أن يثبتوا إسلام عفلق والخوري، أو حقيقة محتويات جيب الرئيس المصري، أو قصة «غينيس».
دخل السوريون العام 2011 وبأذهانهم رواية مشوّهة لتاريخهم المعاصر، قوامها البطولات الأسطورية مستوحاة من كتب التاريخ المدرسية المزوّرة وقصص الأمجاد المتوارثة شفهياً وقصائد المديح البلهاء والأعمال التلفزيونية المفبركة. نسوا أن هذا المشرق العربي لم يقدّم شيئاً للحضارة البشرية في آخر ستة قرون، وكانوا على يقين أن أجدادهم حرّروا سوريا من العثمانيين والفرنسيين. لا يعرفون مثلاً أن خروج الأتراك من بلاد الشام كلف الحكومة الإنكليزية 40 مليون جنيه إسترليني، وأن انكسار الجيش العثماني كان بسبب قوة الجيش البريطاني وحده. كذلك اعتقد السوريون أن أجدادهم حرّروا سوريا من الاستعمار الفرنسي العام 1946، وتناسوا أن الجلاء كان نتيجة صفقة بين الإنكليز والأميركيين على حساب فرنسا في خواتيم الحرب العالمية الثانية، وأن كل ما ورد في مسلسل «باب الحارة» يصلح للفانتازيا الدرامية فقط لا أكثر. الثورات السورية المسلّحة انتهت كلياً العام 1927، والجـــــلاء تمّ العــام 1946، أي بعد 19 عاماً، ولا دور لها في إخراج الفرنسيين عن سوريا ولبنان.
التاريخ أمانة يجب أن تدرس بشكل علمي بعيداً عن العواطف الشخصية. قمنا بتشويهه لكي نستر عيوبنا كأمة، ولكي نُحمّل الآخرين أوزار فشلنا الجماعي. اللوم الحقيقي يقع علينا كشعوب لم تتعلّم الكثير عن مآسي بلادها، فمضت في الطريق المشوّه نفسه بالأساليب والأدوات البالية والخلافات الدينية والعرقية ذاتها. وكتبت التاريخ المعاصر والقديم بطريقة كوميدية تليق فعلاً بمسلسل «باب الحارة»، وليس بأمة من المفترض أن تكون «خير أمةِ أخرِجت للناس».
عن السفير