مع أو ضد، أسود أو ابيض، تحالف أو صراع . تلك الثنائية التي تفرض على التنظيمات السياسية والافراد والمجموعات خيارا من إثنين. هذا الخيار الذي يغلف بالمفاضلة بين الأقل سوءا والاكثر سوءا في أحسن الأحوال. حتى الخيار الأقل سوءا لا يتأسس على مشروع ايجابي وموقف مستقل قابل للتطور والفعل والتأثير والتغيير. بحيث يوظف المشروع والمواقف الأقل سوءا وخطرا في خدمة المشروع المستقل، ولا تكون وظيفته طمس هذا المستقل وتذويبه في مشاريع سيئة إلى ما لا نهاية. هذا النوع من التفكير المعلق بين ثنائيتين، يرفض المختلف معه « حول النظام السوري وحزب الله « جملة وتفصيلا، ويشيطنه بإحالته إلى خندق المؤامرة « الامبريالية الإسرائيلية الرجعية «. ولا يفيد المختلف عداءه الفعلي للمؤامرة وتشهيره بها لطالما يوجه النقد للنظام والحزب «. النقد محظور وممنوع حتى لو كان معززا بمعطيات وتوثيقات وأرقام واستطلاعات وأدب وأفلام سينما وأقوال وتحليلات مفكرين موثوقين. حتى التحقق من المعلومات وتقديم بديل لها غير مطروح. قد يكون حظر ومنع وتحريم النقد مفهوما في ثقافة القبيلة وزعيم القبيلة ورجالها الذين لسان حالهم يقول : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما « وفي كل الأحوال. أما أن يتبنى يساريون حظر ورفض النقد فهذا أمر مستغرب ومفجع، لأن فكرهم وأنظمتهم الداخلية تنص على الحق في نقد سياسات ومواقف التنظيم صراحة ويحتل بنداً مستقلا في الاجتماعات الحزبية، فلماذا يحظر نقد الحلفاء من الخارج ؟ وحظر النقد يخالف الديالكتيك ومناهج التحليل المعتمدة في الفكر اليساري، والتي من المفترض أن تكون سارية المفعول. فثمة أوجه اتفاق في مجمل السياسات وأوجه اختلاف بين التنظيمات اليسارية والأنظمة الرأسمالية. اليسار يعارض جذريا الامبريالية والنظام يعارض تكتيكيا ، اليسار ضد السياسة الاقتصادية الليبرالية و الخصخصة ،والنظام يعتمدها ما أدى إلى إفقار الطبقات الشعبية . اليسار مع الديمقراطية التي تشرك الشعب في شؤون البلد، والنظام يعتمد نظاما ديكتاتوريا وراثيا، ويمارس القمع الدموي بحق شعبه وبحق معارضيه السلميين، ويفرض وصاية على الاحزاب المؤيدة له. اليسار مع فصل الدين عن السياسة والدولة، لكن حزب الله الحليف يعتمد الدين والطائفة ويأتمر بقرار النظام الايراني الديكتاتوري الطائفي. تنظيمات اليسار تتعامل مع حليف بأوجه الالتقاء وبمستوى الدرجة المعتمدة لديه، ولا تتوقف عند اوجه الاختلاف ولا تحاول رفع السقف، ولا تحاول توظيف الالتقاء لخدمة مشروعها التحرري والتنويري المفترض. سياسة غض النظر عن أوجه الخلاف مع حلفاء من طبيعة آخرى قاد أحزاب اليسار الى إنتهاج سياسة ذيلية لسياسات الأنظمة كان لها نتائج وخيمة على شعوب المنطقة. إن الامتناع عن النقد وغض النظر هي في جوهرها تقليد متبع وسياسة معتمدة لدى الديكتاتوريات، وعندما تستجيب تنظيمات اليسار لهذه السياسة فإنها تلحق أفدح الاضرار بالشعب الذي تفرض عليه سلطة النظام، وبالشعب الذي تنتمي له. غياب ثقافة النقد والمساءلة يعني غياب الديمقراطية والحيلولة دون مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها الوطني وفي اختيار شكل الحكم والدولة التي ترغب فيها، ويعني فرض دكتاتورية الزعيم والطغمة والعائلة. تقليد اتبعه عبد الناصر وقاد الى هزيمة وطنية وإلى تحولات رجعية اقتصادية واجتماعية وثقافية داخل مصر. واتبعه صدام حسين وقاد الى المقامرة بالعراق شعبا ودولة، واتبعه الحكم الاسدي فأفضى الى تفكيك سورية وهزالها أمام الاعداء الخارجيين والداخليين. واتبعه الاتحاد السوفياتي فقاد الى الإنهيار التاريخي. وفي كل الحالات السابقة وكثير غيرها، كانت التدخلات والضغوط والحروب من الخارج تفعل فعلها. لكن بؤس العامل الذاتي، في هيئة حكم مستبد ومطلق لم يشرك شعبه في البناء وفي المعركة الوطنية هو المسؤول الأول عن الانهيار والتفكك. المشترك بين القوى التي تغض النظر عن انتهاكات الحلفاء والنظام الحليف، هو إنكار ثورة او انتفاضة او انفجار الشعب بعد طول صبر واحتمال للاستبداد، وانكار حقه في الاحتجاج والنضال السلمي والديمقراطي. النظام يبرر الإنكار بالعامل السياسي كونه ممانع وداعم للمقاومة، ويقفز عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية. ومن الغريب أن تقفز قوى اليسار عن تلك العوامل الأساسية، وأن تشطب الصراع الطبقي والاجتماعي وهو مبرر هويتها اليسارية. وإذا كان شطب النظام لهذه العوامل يتم تكثيفه بأيقونة المؤامرة الخارجية، فإن شطب قوى اليسار لتلك العوامل يتقاطع مع المؤامرة ويزيد عنه في التعامي الكامل عن الحراك الاجتماعي. تخلي تنظيمات اليسار عن البرنامج الاجتماعي، وضمورها في النقابات العمالية والمنظمات النسوية والشبابية، والاتحادات المهنية ، وانعزالها عن الحركات الاجتماعية الناشئة، هو بيت القصيد. إن ذلك التخلي الذي يرتقي الى حالة من العجز، عن بناء حامل اجتماعي ديمقراطي لنضالها على أرضها ومواقعها، يفسر بحثها عن أي منقذ خارجي وتشبثها في أذياله. فهذا المنقذ الافتراضي ( حزب الله، النظام الأسدي، النظام الايراني، النظام المصري) يعفيها من عناء النضال الاجتماعي والديمقراطي على أرضها، أو يبرر عدم الاكتراث به، ويفسر تشبثها «بالكوتة» المحاصصة التي عفا عنها الزمن، ويفسر السبات العميق في المؤسسات المشتركة (م.ت.ف)، وفي المؤسسات الخاصة. يستمر البحث عن منقذ من «شافيز» الى «بوتين» ومن «نصرالله» الى «بشار» وآيات الله وحتى «علي عبد الله صالح». إنكار الاجتماعي والديمقراطي لا يعني الفلاح في السياسي، فماذا تقول تنظيمات اليسار في «الاتفاق الروسي الامريكي والاوروبي» حول بقاء النظام والحفاظ عليه وعلى الدولة السورية، مع وجود خلاف جزئي على بقاء رأس النظام . أين ذهبت «المؤامرة الامبريالية « في التحليل السابق؟ هل يعني انهزام أمريكا أمام روسيا والنظام؟ وإذا انهزمت أمريكا فعلا، فلماذا تواصل الحرب جواً مع قوى التحالف ضد «داعش» في العراق وسورية وليبيا ؟ وماذا عن التفاهم الروسي الإسرائيلي الذي أعتبر» أمن إسرائيل خطاً أحمر»؟ هل تقبل إسرائيل بإعادة بناء وتقوية نظام ممانع وداعم للمقاومة في المنطقة وتقبل بتعزيز نفوذ حزب مقاوم وحرس ثوري ايراني في سورية ولبنان؟ التفاهمات الامريكية الروسية والإسرائيلية تحتمل تفسير أنه لا يوجد خلاف سياسي كبير مع نظام ينتمي الى رأسمالية تابعة سقفه تحسين شروط التبعية. ويحتمل تفسير أن النظام الايراني ومعه حزب الله يحاول تعزيز نفوذه الاقليمي، أما الشعوب العربية وثوراتها المغدورة فهي قضية أخرى