لم تكن تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن موقفه من الأطفال الذين يحملون السكاكين ضد الاحتلال، أو قيام وفد من قيادة حركة "فتح" بزيارة بيت عزاء لضابط إسرائيلي رفيع، هي وحدها التي شغلت الرأي العام الفلسطيني الأسبوع الماضي؛ بل كانت هناك أيضاً، قضية "قانون الضمان الاجتماعي". ومع الفارق النوعي الكبير بين الموضوعين؛ "السكاكين والعزاء" من جهة والقانون من جهة ثانية، ومع التسليم أن الانشغال بالقانون مشروع، فإنّ المشترَك هو فقدان الاستراتيجية الوطنية الجامعة.
ما قاله محمود عباس ليس خطأ من حيث إنّ أي أب تقريبا سيمنع طفله أو طفلته من الذهاب لتنفيذ عملية طعن، وإن كان أي أب أو أم لن يدين ابنه بعد ذهابه، وسيعتبر هذا الطفل أو الطفلة "شهيدا أو شهيدة"، تماماً كما قال عباس في مقابلته في التلفزيون الإسرائيلي، والتي أثارت الكثير من ردود الفعل. وعملياً، يكاد لا يكون هناك شيء يمكن للأب أو الأم فعله بعد الاستشهاد، سوى الحزن، وربما الفخر بابنهم أو ابنتهم، ولكن القيادة الفلسطينية يمكنها، ويجب أن تقوم بما هو مختلف.
يبدو حديث الرئيس عباس في المقابلة، عن العثور على سبعين سكيناً في مدرسة، أمرا بالغ الغرابة يصعب تخيله، رغم أنّ عباس عُرِف عنه أنه يعني ما يقول، لدرجة تجعل الكثير ممن يسمعونه يتمنون أنه لا يعني ذلك. ولكن مع الافتراض جدلاً أن هذه السكاكين وُجدت، أو أن شيئاً قريباً من هذا وجد، أو أن سبعين طفلا وطفلة مجرد عبّروا عن رغبة بحمل السكين، فإن السؤال يصبح حقاً: ماذا تقول القيادة الفلسطينية لهم؟
لن يكون مجدياً تقييدهم أو منعهم أو أي شيء آخر، ولا حتى الوعد بمستقبل زاهر؛ فالحل الوحيد هو "ما هي استراتيجية المقاومة البديلة"؟
من هنا يمكن تخيل أنّه لو وجد من بيده الأمر، أن ابنه أو ابنته يستعد لمهاجمة جندي بكامل عتاده وخوذته، بمقص أو سكين، فإنه سيخبره عن طريق مقاومة أكثر جدوى، وضمن تصور استراتيجي متكامل.
هنا تأتي زيارة عضو لجنة مركزية في حركة "فتح"، وعضو آخر في الحركة، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لبيت عزاء ضابط (درزي) يدعى منير عمّار، كان يعمل مديراً للإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، لتعكس حالة التخبط، أو الرسائل السياسية الغريبة والمستفزة.
تذرُّع عضو اللجنة التنفيذية بأن ذهابه للعزاء كان بسبب علاقته الشخصية بالضابط، لا يبرر ولا يغفر له الزيارة، بل يتثير التساؤل، كيف أصبحت العلاقة بين عضو قيادة الشعب الفلسطيني، ومسؤول الاحتلال، المتحكم بكثير من أدوات الخنق والسجن والتقييد، مقبولة على هذا النحو؟
في لقائه مع وفد من الطائفة الدرزية "بني معروف"، داخل الأراضي المحتلة العام 1948، قال عباس: "أنتم في مكانكم تشكلون رسل سلام، ونحن نريدكم رسل سلام بين الدولة التي تنتمون إليها، وبين القوم الذين تنتمون إليهم". والواقع أنّ الإشارة للقومية الواحدة هي المدخل الصحيح لتوصيف العلاقة مع الفلسطينيين في تلك الأراضي، حتى لقيادة تتبنى حل الدولتين، ولكن هناك تبعات سياسة لهذه الوحدة القومية، والعزاء لا يمكن أن يخدم أبداً استراتيجية وطنية موحدة، فهي مثلا توجه رسالة "احترام" لمن يخدم في الجيش الإسرائيلي، بدل أن يكون عدم الوصول للسلام، وممارسات الاحتلال، سببا للابتهاج والتشجيع للامتناع عن هذه الخدمة العسكرية، فالعزاء إشادة بشخص قرر أن يكون "مُحْتَلا" وجاء كجزء من جيش الاحتلال.
في الأثناء، يجد كثير من الفلسطينيين أنفسَهم مضطرين في سبيل الدفاع عن حياتهم اليومية للانشغال بقضايا العمل والحقوق النقابية، وهذا يمكن أن يحدث حتى تحت الاحتلال، فلا مشكلة في الانشغال بنقاش القانون. ولكن الاستراتيجية (أي استراتيجية) هي حشد كل الإمكانات لتحقيق الهدف، وزوال الاحتلال يحتاج من المجتمع المدني حراكاً في هذا الاتجاه، بذات مقدار التحرك للأغراض النقابية والمطلبية، إن لم يكن أكثر. ولكن السياسيين أيضاً يتحملون وزر الدخول في هذه الانشغالات التي تحوّل الفلسطينيين إلى خصوم أو أنداد، فيما الاحتلال لا يبدو في الصورة.
عن الغد الاردنية