غدا، تحل ذكرى سقوط بغداد، ومعظمنا ما زال يذكر ذلك اليوم الكئيب، الذي شاهدناه على الهواء مباشرة، حين دخلت الدبابات الأميركية ساحة الفردوس، لتفتح بذلك بوابات الجحيم، ليس على العراق وحده؛ بل على المنطقة بأسرها. هذا الشهر، شهر نيسان الذي لا يشبه سواه إلا في عدد الأيام.. المتخم بالذكريات، حيث وُلد فيه "صدام" وتأسس حزب البعث وفيه سقط النظام.. هو الفاصل بين عهدين: في عهد "صدام" مَنَحَتْ "اليونيسيف" العراقَ جائزة أفضل نظام صحي، فيما منحته "اليونسكو" جائزة القضاء على الأمية، أما "الأمنستي" فقد منحته جائزة القمع الأولى.. بعد سقوط النظام اكتشف الناس سجونا تحت الأرض، ومقابر جماعية، وقصورا فارهة، وملفات فساد تورطت فيها الأمم المتحدة وكبار الشخصيات، وأُفرِج عن قصص يشيب من هولها الولدان، ظلت حبيسة الصدور، تكوي أصحابها بنار الذل والخوف.. كما اكتشفوا أن مدن العراق تعج بالأسواق، والطرق السريعة، والجسور المعلقة، والحدائق الغنّاء.. قبل "صدام" كان جنوب العراق يعيش مرحلة ما قبل الرأسمالية، وشمالُهُ مرحلةَ ما بعد اكتشاف الزراعة بقليل، فيما مدنه على حالها كما تركها العباسيون.. في عهد "صدام" صارت مدناً حديثة زاهرة، وتَعِدُ بالكثير.. بعد "صدام" صارت مدن أشباح، يسكنها الموت والسيارات المفخخة، وتعيث فيها الميليشيات الطائفية فسادا. في عهد "صدام"، كانت سياط القمع تعُدُّ على الناس أنفاسها، وأعواد المشانق تنهيها كلياً، أما في العهد الأميركي فمناجل العنف الطائفي تحصد حياة الأبرياء بلا تمييز، جلاوزة صدام كانوا يعدمون بضع مئات في السنة.. المليشيات الطائفية قتلت وشردت الملايين. في العهد البائد كان القتلى يوارون في مقابر جماعية، أما في العهد الجديد فتُقذف جثثهم على قارعة الطريق.. كان النظام يسحق تحت عجلاته المعارضين ويبقي على الآخرين.. اليوم طاحونة الموت تسحق بين رحاها كل شيء، فلا تبقي ولا تذر. في عهد "صدام" أدمن العراق على الحروب، واعتاد على الحصار.. أجيال كاملة انقرضت تقريبا. الكاتب العراقي "علي الصراف" كتب في" العرب" اللندنية مقالة بعنوان "معارض عراقي يعتذر لصدام" جاء فيها: "قُصفت أعمار العراقيين قبل أوانها، سُفحت دفاعا عن حلم مجنون وعن حدود وهمية، وعن زعيم نرجسي.. كانت طبائع الاستبداد واضحة المعالم في بنية النظام، من حيث الزعامة المطلقة ووحشية القمع وشمولية الحكم وسطحية أيديولوجيته وتعاليها". مضيفاً: "أحاط الزعيم نفسه بحاشية من أشباه المثقفين وأنصاف البشر، نجحوا في تحويله من رجل صادق في وطنيته إلى نيرون جديد، وإن كان جلّهم من أبناء العمومة والعشيرة، فلأنه افترض أن ولاء القرابة أهم من إخلاص ذوي الخبرة والكفاءة، وتبين له في النهاية غباء وتساقط "ذوي القربى" وأنهم آخر ما يفيد ساعة الحقيقة". أضاف "الصراف": "بيد أن الزعيم كانت له رؤيته الخاصة الخارقة لحدود الزمن، وحلمه الأكبر من حدود الوطن، وأسلوبه الخاص ذو النكهة العراقية، التي استلهمت عبق التاريخ واستحضرت إرثا طويلا من التقلبات الدموية.. كان صدام يعمّر شاهقاً وبأسرع مما يستوعب الناس لما يجب أن يكون عليه عراق المستقبل". إذا كان خطأ "صدام" هو إشعال الحرب مع إيران؛ لمنعها من تصدير الثورة، فإن خطيئة "الخميني" كانت في الإصرار على مواصلتها، إلى أن أُجبر أخيراً على تجرع كأس السم، ولكن بعد أن أهلكت الحربُ الحرثَ والنسل، وحصدت أرواح مليونين ونصف المليون من البشر، ثلثاهم من الإيرانيين الذين كانوا يحملون مفاتيح الجنة في جيوبهم! أما خطيئة "صدام" الكبرى فهي أنه آمن بالقوة وحدها لفض أي خلاف، وبالقمع لإنهاء أي معارضة، وبالجيش لحسم أي صراع، وما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد منها. صَرف النظام مليارات الدولارات في سباق التسلح في غضون عقدين من الزمان، ظنّاً منه أن القوة وحدها ستجعل من العراق يابان العرب، وليته أنفق نصفها على الصناعات الخفيفة أو الزراعة مثلا، وليته أدرك أن دول العالم ليست قبائل وعشائر تناصب تكريت العداء.. اليوم، في العراق الجديد، نهب رجالات المنطقة الخضراء كل مليارات العراق، ولم يبقوا للشعب سوى البؤس والفقر والدماء. صحيح أن "صدام" كان دكتاتورا؛ لكنه حافظ على وحدة العراق، وأعطى الفقراء مجانية التعليم والدواء، والأراضي الزراعية، وأخذ في المقابل أولادهم حطبا لخمس حروب.. أراد أن يبني عراقا منيعا ولكنه طالب الناس بالطاعة العمياء. لذلك إنهار النظام سريعا. تذرعت أميركا بقصة "أسلحة الدمار الشامل"، والتي تبين أنها مجرد أكذوبة، وأن المسألة هي الهيمنة على النفط، وتنصيب حكومة موالية في المنطقة الخضراء تعقد معها معاهدات مشتركة، وتقبل بوجود قواعد عسكرية، وقد ظن الناس حينها أن أميركا ستخلصهم من الديكتاتور، لكنهم سرعان ما اكتشفوا دوافع أميركا الحقيقية.. أيديولوجيا المحافظين الجدد في البيت الأبيض تقوم على محاربة "الإرهاب"؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً، والحرب التي ستجلب لهم الأموال والنفط وأصوات الناخبين وقرارات مجلس الأمن والتأييد العالمي، وستبيح لها احتلال الدول والأوطان، ونهبها وتشريد شعوبها دون أن يجرؤ أحد على مخالفتها.. وأي مكان ستجد فيه خصما أفضل من العراق!؟ ادعت أميركا أنها جاءت لنشر الديمقراطية.. ولكن، على ماذا احتوت ديمقراطية "بوش" و"رامسفيلد" و"بريمر" غير الفضائح والمذابح!! وعشرات المليارات من الدولارات المنهوبة!! ماذا تغير في العراق نحو الأحسن؟ سأتلو عليكم بعض ما حرم "صدام" على العراقيين وأحلّه "بوش" الصغير: السماح بالمحطات الفضائية، ونوادي الإنترنت، والمجلات الأجنبية، والهواتف النقالة، والسلع الاستهلاكية التي لا تجد من يشتريها!! في العهد الأميركي دخلت البلاد مرحلة من التيه والفوضى، واستشرى الفساد على نحو غير مسبوق، وظهرت الانقسامات الطائفية، وزادت معدلات الجريمة والفقر والأمية والمخدرات، وظهرت شراذم تنظيم القاعدة، ومفاقص الانتحاريين، وفيما بعد "داعش".. وعشرات التنظيمات الطائفية الأخرى التي لا تعرف كيف تعلن عن وجودها إلا بالدم والتفجيرات، هذه التشكيلات الإرهابية هي أيضا وجدت في العراق مرتعا خصبا وميدانا تختبر فيه قوتها. صحيح أن أميركا انسحبت من العراق قبل أكثر من ست سنوات، لكنها تركت خلفها بلدا مدمرا، سيحتاج سنين طويلة قبل أن يستعيد عافيته.. أخشى فعلا أن "ليل العراق طويل".
كشف آخر تطورات حريق بغداد.. وحصيلة قتلى "الزفاف المأساوي"
27 سبتمبر 2023