تحظى الانتخابات الأمريكية التى تجرى كل أربعة أعوام` بأهمية واهتمام عالمى كبير لكونها ترتبط باختيار رئيس الدولة التى لا تزال تقف على رأس هرم النظام الدولى وتتشابك سياساتها الخارجية فى العديد من التفاعلات والأزمات والقضايا فى العالم.ورغم أن السياسة الخارجية الأمريكية تحكمها ثوابت ومصالح لا تختلف بنوعية الرئيس الأمريكى ماذا إذا كان جمهوريا أو ديمقراطيا, إلا أن شخصية الرئيس الأمريكية وتركيبته وبيئته النفسية تؤثر بشكل كبير على أدوات تلك السياسة فى تحقيق الأهداف الأمريكية, وتكتسب الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام خصوصية وأهمية واضحة بسبب طبيعة ونوعية المرشحين من الحزبين والذى أثار بعضهما جدلا شديدا خاصة المرشح دونالد ترامب, بشعاراته ومقولاته الصادمة ومنها طرد المسلمين من الولايات المتحدة وفرض رقابة على أحياء المسلمين وإقامة جدار على الحدود مع المكسيك إضافة إلى وصفه الحلف الأطلنطى بالعقيم واعتزامه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإلغاء الاتفاق النووى مع إيران.. وغيرها من التوجهات التى تشكل ظاهرة غريبة على المجتمع الأمريكى ولمرشح لرئاسة أكبر دولة فى العالم, والمفارقة أن ترامب يتقدم فى الانتخابات التمهيدية فى الولايات بما يجعله المرشح المحتمل للدخول فى السباق النهائى, وفوزه يعنى تداعيات خطيرة على السياسة الخارجية, أبرزها إثارة حالة التوتر بين الولايات المتحدة والعالمين العربى والإسلامى, فتضخيم ظاهرة الإسلاموفوبيا وتطرف ترامب سوف تغذى بدورها ظاهرة التطرف لدى الجماعات المتشددة, وهو ما يعنى دخول مرحلة جديدة من العنف والإرهاب, كما أن توجهات ترامب سوف تقود إلى صدام وتوتر مع حلفاء أمريكا التقليديين كأوروبا ودول أمريكا اللاتينية ومع روسيا وحلف الأطلنطى.
ومع غياب شخصية كارزمية ضمن المرشحين يمكن أن تحظى بثقة الأمريكيين, وضعف المنافسين الآخرين, مثل بيرنى ساندرز عضو مجلس الشيوخ, والسيناتور الجمهورى تيد كروز, فإن كل المعطيات تشير إلى احتمال أن تصبح هيلارى كلينتون رئيس أمريكا الـ45 هو الأقرب للواقع وذلك لعدة أسباب, منها المزاج العام الأمريكى, الذى يريد أن يأتى بامرأة رئيسة لأمريكا بعد أن جاء برئيس من الأقليات ومن أصول سوداء, وهو أوباما, ليقدم نموذجا للعالم فى الديمقراطية, ثم يعود مرة أخرى إلى تقليد الرئيس الأبيض الانجلوسكسونى, إضافة إلى أن صعود ترامب الأحمق سوف يدفع قطاع كبير من الأمريكيين ومن الجمهوريين بشكل خاص إلى اختيار كلينتون, ليس حبا فيها ولكن خوفا من خيار ترامب, على غرار نظرية مرسى وشفيق, وهو ما بدا من رفض الحزب الجمهورى نفسه والمحافظين التقليديين البرنامج الانتخابى الجدلى لترامب باعتباره يسئ إلى صورة الولايات المتحدة, كذلك دور زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون والذى يحظى بشعبية كبيرة فى أمريكا منذ ولايته فى التسعينيات وإنجازاته الاقتصادية الداخلية, ومازال يحظى بشعبية خاصة وسط الجنس اللطيف, إضافه إلى عامل آخر وهو دهاء هيلارى السياسى كوزيرة سابقة للخارجية لأربع سنوات مع أوباما وخبرتها الواسعة فى الشئون الخارجية وعلاقاتها القوية فى الشرق الأوسط خاصة مع الدول الخليجية مثل السعودية وعلاقاتها المتميزة بإسرائيل, ومن ثم كسب دعم اللوبى اليهودى لها, والذى يلعب دورا مؤثرا فى الانتخابات عبر ظاهرة المال السياسى والذى كان لافتا فى الانتخابات السابقة وتجاوز السبعة مليارات دولار.
لكن خيار فوز كلينتون, وإن كان يعنى تصدر السياسة الخارجية لأجندة الرئيس المقبل, إلا أنها تعنى أيضا عدم حدوث تغييرات جذرية فى تلك السياسة, فكلينتون لا تمتلك رؤية شاملة يمكن أن نسميها «عقيدة كلينتون» لكيفية التعامل مع ميراث السياسة الخارجية الذى سيتركه أوباما وعلى رأسه الأوضاع فى الشرق الأوسط واستراتيجية محاربة الإرهاب التنظيمات المتطرفة كداعش والقاعدة, ونمط التعاطى مع الأزمات فى سوريا والعراق واليمن وليبيا ومشكلة اللاجئين, والتى أظهرت جميعها تخبط السياسة الأمريكية وإخفاقها فى التعامل مع تلك الملفات، وهو ما ساهم فى تعقدها واستمرارها وهو ما دفع أوباما إلى ترجيح خيار الانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه صوب الشرق الأقصى، لكن المصالح الأمريكية فى المنطقة وعلى رأسها تأمين وصول النفط ومحاربة الإرهاب ستفرض على الرئيس الأمريكى القادم استمرار الانخراط فى قضايا المنطقة وضرورة التعامل معها لكن نمط السياسة لن يختلف كثيرا عن إستراتيجية أوباما وهو الانخراط والحرب بالوكالة لكن دون التورط العسكرى المباشر فى تلك الأزمات, كما أن فوز كلينتون يعنى عدم حدوث تغيير جوهرى فى اتجاه حل القضية الجوهرية المتمثلة فى القضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى, خاصة أن كلينتون ذاتها إبان توليها وزارة الخارجية لم تحدث اختراقا ملموسا فى إحياء عملية السلام المتجمدة منذ سنوات, ومالت بشكل كبير إلى تبنى وجهة النظر الإسرائيلية.
كما أن موقف كلينتون من قضية الديمقراطية والإصلاح السياسى والمجتمع المدنى فى الشرق الأوسط لن يشهد أيضا تغيرا جذريا, حيث تميل كلينتون إلى الواقعية السياسية, وهو محاولة تحقيق التوازن بين المصالح الأمريكية فى المنطقة وبين دعم الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان والحريات, لكن عندما تتصادم الواقعية مع المثالية, أى المصالح مع القيم, فإن كلينتون, كغيرها من الرؤساء الأمريكيين السابقين, سوف تعلى المصالح والاستقرار على الديمقراطية والإصلاح, وهو ما بدا من مواقفها المتناقضة من ثورات الربيع العربى, ودعمها للنظم الاستبدادية فى البداية ثم التخلى عنها مع تصاعد تلك الثورات. وفى كل الأحوال فإن خيار كلينتون سوف يكون له تداعيات كبيرة ومهمة على منطقة الشرق الأوسط وأزماتها المستعصية, ويفرض حقبة جديدة فى سياسة أمريكا تجاه المنطقة.
عن الاهرام