سفرجلة الكاهن

رامي مهداوي
حجم الخط

صديقي الذي أسميته منذ سنوات الكاهن بسبب مواعظه التي أستقيها منه في شؤون الحياة حيدر عوض الله، اكتشفت منبع مخزونه من الخبرات والتجارب أثناء قراءتي لإصداره الجديد "السفرجلة". نادر جداً أن تملكني رواية أثناء قراءتها لأعيش تفاصيلها خارج حيز صفحات الكتاب، قد تتقمص دور أحد الشخصيات في الرواية التي تقرأها، وربما تكتشف بأن ما حدث مع الآخرين حدث معك لكن الزمن/المكان مختلفين. السفرجلة ليست رواية بالمفهوم الكلاسيكي اذا ما طبقنا عليها شروط خلق الرواية. السفرجلة أشبه ما تكون بسيرة ذاتية لمراحل مختلفة من الحياة بداخلها العديد من القصص التي شكلت شخصية الكاتب المتمردة ليس فقط على المجتمع وإنما على ذاته. أكثر ما صعقني هو مقدرة الكاتب بالتعري الصادق أمام قرائه في قصص أجزم بأن الكثير من الكتّاب يخشى أن يذكرها كحالة من الهروب أو التستر من الماضي، وهنا نجد شجاعة الكاهن بالتحدث عن تفاصيل الطفولة بسردية بعيدة عن الكلاسيكية وأيضاً بتكسيره اللغة بمعنى يجعل من اللغة السلسلة متعة لمصلحة المضمون، ليستشعر القارئ قرب الراوي وهو يحدثنا عن قصص متنوعة اجتماعية، اقتصادية، سياسية ويدخل بتفاصيل التفاصيل التي تذكرنا بذاتنا: أول الحب، أول الجنس والبُطولات، الهروب من البيت والمدرسة، الجوع وحالة الحرمان بمفهومه الواسع.... إن قلم الكاتب/ عين الكاميرا في السفرجلة أخذت ترصد مشاهد مختلفة من الماضي ضمن منظومة متحركة في قصص مختلفة لها مدلولات مختلفة سيفهمها كل قارئ بشكل مختلف. أدعي _وربما أكون مخطئا_ بأن هذه السيرة الذاتية لم تسلط الضوء فقط على شخص الراوي_ البطل بالمفهوم التقليدي_ وإنما تم إبراز شخصية الأب كمحور أساسي في تشكُل البطل ودعمه له على الرغم من قسوة الأب الدائمة. وكأن الراوي يريد أن يقول لوالده شكراً بطريقة غير مباشرة من خلال حديثه المستمر عنه أثناء خوضه التجارب بكل نكهتها معه ما بين التعليم وحمل السلاح والثقافة الحزبية. حالة التمرد والرفض الدائم من أبرز سمات الراوي "البطل" فهو لم يكتف بتمرده على البرتقال، المعلم، المجتمع، المدرسة، العائلة وإنما تمرد على النص المقدس في التعليم "المدرسة/الجامعة" بنصوص أخرى كونت مخزونا ثقافيا يحسد عليه، لكن هذا التمرد انكسر أمام الأنثى " الأم/ الحبيبة" حالة الهجران غير المبررة لهنّ، بالتالي حاول تعويض ذلك بقصص بطولية مع المرأة بأشكال مختلفة ليس فقط بفضاء الجنس، وخير مثال على حالة الانكسار_ مع الاعتزاز بالنفس فهو رجل شرقي_ الرسالة التي أرسلها لحبيبته ووضعها على الغلاف الخلفي لكتاب"....... أنا لا أطلب سيدتي شيئاً، ولم أعد أهتم بالأشياء، تفاصيل تمضي، تفاصيل تجيء، اذهبي إن شئت، فكل ما أودُّ أن آخذه مفاتيحي البكر وأول تاء التأنيث. ابحثي عن سلوى ومفكرةٍ جديدة، عيشي ما شئت، فأني أحب أن تعيشي. أينما كنت، يا سيدة الذكرى، لن تستطيعي فراراً من يد قدري لأني أول الحمل، أول الندى، أول العشب الطريّ".   الممتع في هذه السيرة الذاتية هو تفاعل الزمن والمكان فما بين المخيم والمدينة العربية أو/و الأوروبية نجد الراوي يتفاعل بطرق مختلفة ويبدو أن طريقة عمل المخيلة الروائية لا تنفصل عن طبيعة التجربة التاريخية، ومن قُدر له أن يعيش بين مخيمات اللاجئين كما هو حال الراوي يسمع العديد من القصص التي ذكرت في هذه السيرة الذاتية، لكن وحده الكاهن حيدر عوض الله الذي استطاع انتزاعها من سياقها وتقديمها كنموذج للحالة الإنسانية بسبب صدق الكلمة التي تنقل التجربة كما هي، دون أي مزايدات أو إضافة البهارات التي يعتمد بعض الكتاب على إضافتها على أمل حصولهم على جائزة في المحافل المحلية والدولية التي تدعي الثقافة!!