باستثناء الشريط الذي صورته منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية عن قرب ثم قامت ببثه ونشره، والذي وثق عملية القتل بأوضح تفاصيلها وضبط الجندي القاتل متلبسا بالجرم المشهود، باستثناء ذلك الشريط، فان حدث القتل بذاته هو تكرار لفعل ظل جنود دولة الاحتلال ومنتسبو قواها الأمنية يمارسونه عبر سنوات عمرها الاحتلالي كله. الجندي القاتل وصل الى مكان الحادث بعد 11 دقيقة من إصابة الشهيد الشريف وتركه ملقى على الأرض مشلول الحركة فاقداً لأي خطورة، وبعد التيقن انه لا يتزنر بحزام ناسف، كما أفاد جندي إسرائيلي كان في الموقع منذ البداية. وأضاف نفس الجندي، ان القاتل علّق فور وصوله الى موقع الحدث: اما زال هذا الـ "...." حيا ؟. صور الشريط تقول ان الجندي القاتل تبادل حديثا مع احد الضباط في الموقع، خرطش بعده سلاحه، وكأنه تلقى الموافقة على القتل، ثم مشى بضع خطوات حتى أصبح على المسافة صفر من الجريح واطلق النار على رأسه فقتله فوراً. شريط مصور آخر بثته منظمة " بتسيلم" يظهر ان القاتل اهتم بعد قتله الشهيد بمصافحة المتطرف في حركة كهانا العنصرية " باروخ مارزل" الذي يوزع الحلوى والبيتزا على جنود الاحتلال في كل مرة يقتلون فيها فلسطينيا. الجندي القاتل، قام بفعل القتل الموصوف بانسجام تام مع معتقداته. فهو من اتباع حركة "كاخ" المتطرفة التي أسسها " كاهانا "الداعية الى طرد العرب من إسرائيل، وكان قد كتب على صفحته في الفيس بوك " كاهانا كان على حق". والقاتل من مشجعي نادي بيتار القدس المعروف بأفعاله المعادية للعرب، وشارك في أكثر من مسيرة تنادي "الموت للعرب". باستثناء الشريط المصور الذي ضبط الجندي متلبساً بالقتل: بماذا يختلف فعل الجندي عن فعل وزير الحرب يعالون حينما وجه الرصاص الى رأس الشهيد خليل الوزير" ابو جهاد" بعد اغتياله في بيته بتونس في نيسان 1988. وبماذا يختلف عن فعل ايهود باراك عندما رسم بالرصاص دائرة حول فم الشهيد كمال ناصر بعد ان كانت فرقة الاغتيال التي قادها قد أنجزت اغتياله ببيته في بيروت في نيسان 1973. وبماذا يختلف عن ملاحقة عملاء الموساد وتصيدهم وقتلهم لمندوبي وممثلي منظمة التحرير والمناضلين في العواصم الأوروبية في السبعينات مثل زعيتر والهمشري والقلق والقبيسي وأبو دية وغيرهم، ثم القائد ماجد أبو شرار. وأيضا عن قتلهم الشهيدين غسان كنفاني وحسن سلامة في بيروت. ثم بماذا يختلف فعله عن عمليات الإعدام المباشر لعشرات من فتية وصبايا وشباب الهبة الجماهيرية الدائرة الآن. اللافت بشدة، ان أغلبية طاغية في مجتمع دولة الاحتلال لا ترى فيما فعله الجندي جريمة، بل تؤيده في فعلته وتعارض اعتقاله وتقديمه الى المحاكمة. وتشاركها نفس الرؤية، كل القوى والأحزاب السياسية تقريباً ومعظم وزراء الحكومة. انها الفاشية تضرب عميقاً في كل مكونات دولة الاحتلال، مقترنة بالتمييز العنصري وموات الديموقراطية وتغول الاستيطان. هذه الرؤية المجتمعية والسياسية الطاغية هي ما فرضت على نتنياهو لحس ما قاله في البداية "ان ما حدث لا يمثل قيم وأخلاقيات جيش الدفاع"، ليعود مدافعا وموضحا، ويتصل بعائلة الجندي القاتل مفسراً ومعتذرا. وهذه الرؤية هي ما أدت الى تراجع النيابة العسكرية عن قرارها محاكمة القاتل بتهمة القتل العمد الى القتل غير المتعمد، والى إطلاق سراحه وحجزه في معسكر للجيش يمتلك فيه حرية الحركة والاتصال واستقبال الأهل. حدث القتل كما تم تصويره وبثه، احدث تفاعلات واسعة جدا على مستوى العالم تدين القتل وتطالب بالمحاكمة للجندي القاتل، وتتسع للمطالبة بالتحقيق بكل ممارسات الاحتلال التي تخرق حقوق الإنسان وبعمليات تنفيذ الإعدام الميداني وبأساليب التعذيب التي تمارسها ضد الفلسطينيين. وحدث القتل كان، في الغالب، العامل المسرّع للرسالة التي وجهها السناتور الأميركي ليهي من الحزب الديمقراطي ومعه 10 أعضاء كونجرس الى وزير الخارجية كيري يطالبونه فيها التحقيق في خرق حقوق الإنسان في "إسرائيل". ويذكّرون بحالات عدة تم فيها خرق حقوق الإنسان بشكل فظ، وبينها تنفيذ عمليات اعدام ميداني بلا محاكمة لفلسطينيين مشلولي الحركة، عدا عن الأنباء التي تكشف أن إسرائيل ما زالت تمارس أساليب تعذيب للفلسطينيين المعتقلين في سجونها. ما اقلق دولة الاحتلال بشكل استثنائي من هذه الرسالة وتسريبها، وما جعل رد نتنياهو يأتي غاضباً جداً مدافعاً عن جيشه وقيمه وأخلاقياته، أنها جاءت متزامنة مع الأبحاث الجارية لتحديد حجم المساعدات الأميركية لإسرائيل ومحاولات إسرائيل زيادتها بنسبة 25%. وأيضا لأن الرسالة جاءت من السيناتور ليهي بالذات، كونه صاحب مشروع القرار بالقانون الذي تم إقراره ويقضي بحرمان الدول من المساعدات الأميركية في حال ثبوت خرقها لحقوق الإنسان. القيادة السياسية الفلسطينية قررت رفع جريمة القتل العمد الموصوفة الى محكمة الجنايات الدولية. ورغم ان هذه المحكمة "حبالها طويلة" الا أن التوجه لها يبقى ضرورياً ومفيداً. ويكون هذا التوجه اكثر وأعم فائدة، لو جاء في اطار توجه عام يسعى لتطوير التواصل مع الرأي العام العالمي ومخاطبة قواه وهيئاته ومنظماته الشعبية والدولية، وان يتوازى هذا السعي مع توجه جاد لتطوير هيئاتنا وادواتنا الوطنية المختصة بهذا الامر، وتطوير آليات عملنا، وبحيث يأتي التطوير في تكوينه وجوهره وطابعه شعبياً مجتمعياً متخصصاً بالدرجة الاولى والأساس. آفاق النضال في هذا المجال تبدو اكثر انفتاحاً وجاهزية للقبول والفعل، واكثر قدرة على التأثير من أزمان سابقة. ولنا في نجاح تجربة جنوب إفريقيا مثلاً مضيئاً.