عن حفلات التوبة في غزة

1-7-300x202
حجم الخط

شهدت الثمانينيات بداية صعود حركات الإسلام السياسي التقليدية، بيْد أن التسعينيات شكلت بداية صعود الحركات الجهادية الميّالة للعنف، والتي كانت قبل العام 1980 لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، ثم أخذت تتضاعف، حتى صارت خلال التسعينيات بحدود (26) حركة جهادية تؤمن بالعنف وتمارسه فعليا، اليوم تضاعف عددها عشرات المرات. في بداية التسعينيات، كنتُ مدعواً لحفل زفاف أحد الأصدقاء في مدينة السلط الأردنية، وفي منزله كانت هناك حفلتان؛ الأولى فوق السطوح، وفيها أعداد غفيرة من الشباب والأهالي الذين كانوا يغنون الأغاني السلطية التراثية، ويدبكون ويمرحون بالأسلوب الشعبي المحبب، فيما الثانية كانت في صالة واسعة داخل المنزل يحضرها عدد أقل، أكثرهم من الفتية وأصدقاء للعريس من خارج المدينة، ومن خارج الأردن، ومن جنسيات عربية متعددة، وهؤلاء كانوا يقيمون "عرسا إسلاميا". وكان أحدهم يبرر للحضور لماذا هو عرس إسلامي، بكلمات تبدو بظاهرها بريئة، أذكر مما قاله "إن العرس الإسلامي هو بديل حفلات الرقص والخلاعة والمجون والفسق وووو".. المهم أن العريس الذي كان حتى تلك اللحظة منقسما بين الحفلتين، وموزعا بين انتماءين: انتمائه لمجتمعه وبيئته الثقافية الشعبية، وبين الثقافة (الأيديولوجية) الجديدة التي يبشر بها أصدقاؤه الجدد من خلال "العرس الإسلامي"، لكن حيرته لم تدم طويلا؛ فقد انتهى به المطاف خلال سنوات قليلة ليصبح منظِّر الجماعات السلفية المتشددة، ثم من قيادات تنظيم القاعدة، وهو على الأرجح يشغل حاليا منصبا ما في ولاية الرقة. في الفيلم المثير الذي انتشر مؤخرا، يظهر مجموعة من رجال الدين، منهم بزي عصري، ومنهم بالزي الأفغاني، يحتلون مدرسة ابتدائية بتواطؤ من مديرها وهيئتها التدريسية، ومن مديريات التربية في القطاع، التي تخضع لسلطة حماس، ويبدأ أحدهم بإلقاء خطبة حماسية ملتهبة تنتهي بسقوط عدد من الطلبة مغشيا عليهم، فيما يلقى آخرون بأجسادهم الطرية على صدر الشيخ والدموع تنهمر من عيونهم، والخشوع بادٍ على محياهم.. وسط صيحات التكبير والتهليل يعلن هؤلاء الأطفال "توبتهم" و"رجوعهم" للحق، مع فرحة عارمة لأصحاب الحفل بـ "هداية" مدرسة كاملة، وضمها إلى حظيرة الإسلام. بدا المشهد بالنسبة للبعض مثيراً للرعب والاشمئزاز، وبالنسبة لآخرين كان مشهدا بريئا، بل يدعو للفرح، بتوبة أطفال، وابتعادهم عن الرذيلة والفسق.. وإلى هؤلاء نطرح بعض التساؤلات البريئة أيضا: من هؤلاء أولاً؟ ومن أين جاؤوا؟ ومن أتى بهم؟ ولأي غرض؟ ومن أعطاهم الحق باقتحام مدرسة، وسرقة ساعات من وقت الطلبة المخصص للدراسة وللأنشطة المدرسية المفيدة؟ ومن فوضهم بقبول توبة الناس؟ وبيع صكوك الغفران؟ ومن أقنعهم أنهم مندوبون عن الله سبحانه، وناطقون باسمه تعالى!! والسؤال الأهم: عن أي ذنب سيتوب أطفال في عمر الزهور؟! ما الذي اقترفه طالب بالابتدائي حتى يستوجب كل هذه الدموع والصيحات والبكائيات؟! طلب التوبة من الآخرين هو الوجه الثاني لعملة التكفير، وينطلقان من نفس الآلية: بأن يأتي أحدهم وينصّب نفسه وصيا على الناس، وعلى ضمائرهم وأفكارهم، فيكفِّر من شاء، ويطلب التوبة ممن يشاء، أما هو فمنزل من السماء!! في الواقع؛ من عليه التوبة، هم هؤلاء المدّعون، ومن أرسلهم، الذين خطفوا قطاع غزة وأخذوا أهله رهينة لصالح مغامراتهم السياسية ومشاريعهم الأيديولوجية، من حولوا القطاع إلى مكان غير صالح للسكن. في الخطبة العصماء التي ألقاها الشيخ على مسامع الطلبة، يعترف أن فريقه زار من قبل 40 مدرسة، وأقام حفلات توبة شبيهة، ما يؤكد أن الموضوع خطة منهجية لها أهدافها وغاياتها.. لكن تلك الحفلات لم تصور، أو أنها صُورت ولكن لم يتم عرضها، ربما لأن تلك المدارس ظلت على غيّها وضلالها، ولم تلتحق بالركب المؤمن!! بعد أن وصل مشروع "إمارة غزة" لطريق مسدود، وظهرت كل عوارض فشله، التي باتت تنذر بانفجارات مجتمعية عنيفة، وبعد أن أفلس قادة المشروع ولم تعد خطبهم تقنع أحدا، وأصبحت لا تثير في الجماهير سوى حنقها وغضبها، أراد هؤلاء التوجه لجماهير المستقبل؛ الأطفال، الذين سيطرحون على قادتهم أسئلة مصيرية لا تقبل الإنشاء، ولا تعنيها فصاحة اللغة وكاريزما الخطيب؛ سيطرحون أسئلة عن مستقبلهم، ولن يقبلوا بأقل من إجابات حقيقية. هؤلاء الأطفال، سيكبرون خلال سنوات قليلة جدا، سيخرجون من عوالمهم البريئة، ليجدوا عالما آخر.. سيبحثون كثيرا عن جامعات محترمة تليق بذكائهم، وعن مؤسسة تلبي طموحهم، سيحاولون السفر للدراسة في الخارج، سيحتاجون فرصة عمل، وسيبحثون عن مسكن لائق، وسيرغبون بالزواج، والسفر، وتلقّي خدمة مجتمعية تليق بكرامة الإنسان، سيبحثون كثيرا عن الفرح.. ولن يجدوا سوى الكلام الإنشائي، وخطباء مفوهين يدعونهم للصمود ودعم المقاومة (المتوقفة).. ومثل هذه الدعوات لا تجد آذاناً صاغية إلا ممن تعرضوا لغسيل دماغ في وقت مبكر، وهذا بالضبط هو غاية ومضمون حفلات التوبة. الترهيب الذي اتبعه رجال الدين تاريخيا، في ظاهره البريء، هو ترهيب من عقاب الله لمن يخرج عن طاعته، وفي جوهره الحقيقي هو ترهيب من رجال الدين أنفسهم، الذين يدعون انهم يمثلون الله على الأرض، أي ترهيب من المؤسسة الدينية الحاكمة، التي ستستخدم سوط الدين لجلد من يخرج عن سلطتهم، من يفكر بالاعتراض، من يطرح الأسئلة، ثم تستخدم من آمن بهم واتبعهم لترهيب بقية المجتمع، وإخضاعهم لسلطانهم، لذلك، فإن هؤلاء لا يقدمون الدين بوجهه الحضاري الإنساني. أغلبية هؤلاء الأطفال سيعانون من كوابيس رعب لفترة وجيزة، ثم سيبرؤون منها، ويعودون أطفالا طبيعيين، يتطلعون لمستقبل مشرق.. لكن بعضهم، سيتشبع بالأفكار المتطرفة، لأن الترهيب يستخرج الطاقات العنيفة من دواخلهم المكبوتة، ما يعني أنهم سيكونون نواة لتنظيمات أشد داعشية ممن دربهم. فإذا كانت الجماعات السلفية المتشددة الموجودة في غزة هي لغاية الآن تحت سيطرة حماس؛ فإن مجموعات أخرى من التيارات السلفية ارتبط اسمها بتنظيم القاعدة، وحاليا تشكيلات غامضة ترتبط بداعش، وبالمجموعات الإرهابية في سيناء، سيكون صعبا على حماس السيطرة عليها، وهؤلاء مع الجيل الجيد من المتشددين، سيفلتون في وجه المجتمع، وبدلا من الإجابة عن أسئلته المنطقية، سيحولون القطاع إلى جهنم من نوع مختلف.