مشهد استتابة الأطفال في غزة صادم ومؤلم. الصدمة والألم بلا فائدة ما لم يسهما في التحريض على التفكير والتدبير، كأن نقول، مثلاً: إن المشهد يستعصي على الفهم دون قراءته بأدوات تحليلية مختلفة. وهنا اقتراح بالقراءة على خلفية الفنون التمثيلية والأدائية، وعنصر الفرجة على نحو خاص، وفي هذا إحالة إلى عالم وعلوم الأدب، والفنون الأدائية، باعتبارها نصوصاً بصرية مثقلة بالعلامات. فلنفكر، بداية، في دلالات معيّنة لتتسع حدقة العين: كل ما يتصل بالصور والمشاهد البصرية المصوّرة يستدعي دلالة التمثيل، ويستحضر علاقات القوّة، فما أن تبدأ عدسة الكاميرا، سواء في صور شخصية وعائلية، أو مقابلة تلفزيونية، أو عمل درامي، أو مشهد عام، في القبض على لحظة ما، تكون جملة أشياء قد تحققت في آن: اللحظة، وإن كانت عابرة، يحررها القبض عليها في صورة تقبل الحفظ، والتداول، والاستنساخ، من هشاشة العابر، أما العدسة فترى ما تريد، لا ما يوجد بالفعل، بمعنى أن المرئي، ليس الواقع، بالضرورة، بل نتاج عملية مونتاج بصرية تنتخب وتقصي ما تشاء، فهي ليست حيادية؛ لذا، تُحوّل كل ما ترى من ذات إلى موضوع. أشهر صور الحرب العالمية الثانية، مثلاً، يظهر فيها جندي سوفياتي رافعاً العلم الأحمر فوق الرايخستاغ، في برلين، ويعتقد كثيرون أنها التقطت لحظة سقوط العاصمة الألمانية، في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك يتجلى، هنا، السيناريو المُسبق، والتمثيل، فالصورة تمت بأمر من ستالين، الذي أراد تخليد لحظة الانتصار في أيقونة، وفي هذا السياق، استعان مُصوّر أوكراني بصديق صنع له ثلاث رايات من قماش طاولات أحمر لرفعها فوق أهم معالم المدينة. التقط الصورة الأولى فوق بوابة براندنبورغ، والثانية في المطار، ثم اكتشف أن صورة التقطت فوق مبنى الرايخستاغ قبل أيام، فأعاد تمثيل المشهد، واستعان بجندي لرفع الراية، وتبيّن بعد تظهير الصورة أن الجندي يضع ساعة في كل يد (إيحاء باحتمال السرقة)، وهذا ما استدعى تظليل معصميه، وزيادة كثافة الدخان، في خلفية الصورة، لإضفاء مزيد من الدرامية على أيقونة النصر. على أية حال، عملية التحويل، حتى وإن بدت عفوية، تنم عن تبدّل في علاقات القوة، فصاحب العدسة بقدر ما يرى، وما يريد أو لا يريد أن يرى، يملك سلطة استثنائية، حتى وإن كانت مؤقتة. سلطة تعززها حقيقة أن ما ينبغي أن يحضر في مشهد، أو يغيب عنه، يملك قابلية أن يكون رسالة، أو وسيلة إيضاح لشيء ما. ولا إمكانية، في الواقع، لإنشاء صلة بين غائب عن مشهد، وحاضر في ذهن المصوّر، دون سيناريو مسبق استدعته خبرات مهنية وتحيّزات جمالية أو أيديولوجية وسياسية، حتى وإن كان وليد اللحظة. وفي صور السيلفي، الشائعة هذه الأيام، ينبغي وجود قدر من التواطؤ، ما بين حاضر في المشهد وغائب عنه، يمكّن صاحب الصورة من تخيّل سيناريو من نوع ما، والتحوّل من ذات إلى موضوع في آن، وهذا يصدق على صور وفيديوهات الـ"فيسبوك"، وما يتصل بها من تعليقات. في المقابلات التلفزيونية، يُمثّل المُحاوِر والمحاوَر دورين انجبهما سيناريو ما، وغالباً ما يكون السيناريو مُسبق الإعداد، وهذا يعزز دلالة التمثيل. ففي الفيديو المُسرّب، مثلاً، عن "الجزيرة" القطرية قبل سنوات قليلة، يطلب "المُفكر العربي" من مقدّم البرنامج أن يطرح عليه أسئلة معيّنة، ويزدهي بما فعل بكذا وكذا في حلقة سابقة، ولم يكن ليفعل هذا لو أدرك أن عين الكاميرا لم تنم، ولولا التسريب لما عرف المشاهد، كم يمارس الغائبُ من حضور في مشهد يتحقق فيه بقدر ما ينجح في ادعاء الغياب عنه، وكم يتجلى عنصر التمثيل في مشاهد تدعي أنها أبعد ما تكون عنه. أيام زمان، قبل رواج وتعدد أجهزة التصوير، كانت أستوديوهات المصوّرين تضم حائطاً رسمت عليه لوحات طبيعية لجبال كللتها الثلوج، أو مروج خضراء، وكانت لديه أكسسوارات: مقاعد، وسترات، وربطات عنق، وباقات ورد، وأشياء أخرى، قد يحتاجها الناس لتكون جزءاً من عدة التمثيل. السينما تعتمد المبدأ نفسه، مع فارق هو أنه لا اللوحات المُلوّنة في غرفة المصوّر، ولا أكسسواراته، تفي بالغرض، فبدلاً من إحضار المشهد الطبيعي لعين الكاميرا، تذهب الكاميرا إليه، وهذا يصدق على أي شيء آخر. وأيضاً، مع فارق أن الفيلم يجمّد ملايين اللحظات العابرة، وتستدعي حبكته حركتها وحراكها في الزمان والمكان، ناهيك عن تمكينها من الكلام، أي تلازم المرئي والمسموع. وهذا كله لا يقبل التحقيق دون سيناريو مسبق. ولنقل إن موضوعات السيناريو المُسبق، مثلها مثل الموضوعات الرئيسة في الفن والأدب، محدودة، وإن كانت ذات قابلية، لا نهائية، للتحوير، والتدوير، وإعادة الإنتاج، والمونتاج، والتكرار. ولعل في هذا ما يأخذنا إلى فيديو الاستتابة، الذي نحتاج لتفكيك كل عنصر من عناصره البصرية، والسمعية، على حدة، قبل إعادة تركيبها، ونحتاج، أيضاً، للعثور على سيناريو مُضمر، مُسبق، ومحتمل أنجبه. وأعترف، في هذا الصدد، بأنني لم أحتمل مشاهدة الفيديو كاملاً، واكتفيت بدقيقة وثماني وخمسين ثانية، أعتقد أنها تكفي وتفي بالغرض. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالفيديو المذكور، وأفترضُ أن الكثيرين اطلعوا عليه، أو سمعوا به وعنه، فإن ما يستحق التفكير، والتدبير، يتمثل في رسم ملامح سيناريو محتمل، وقراءة الملابس، ولغة الجسد، وبلاغة التجليات العاطفية (خاصة الدموع وطبقات الصوت)، باعتبارها علامات، ووسائل إيضاح، في سياق التعليق، في المقالة القادمة، على ما نحن فيه، وأصبحنا عليه.