عندما تكون المياه غير صالحة للشرب أو حتى للاستحمام في غزة، وتجد زجاجة مياه معدنية أمامك، تشعر بالراحة، ثم لأسباب سياسية ولفضول شخصي تبحث عن مصدر هذه المياه فيكون تركيا، فتجد القصة تختصر الكثير من الأمور في القطاع. هناك دور تركي خاص، لا يمكن للمحاصرين إلا استقباله بسعادة، رغم البعد السياسي الكامن في ثنايا المسألة.
عُقدت الأسبوع الفائت لقاءات بين مسؤولين أتراك وإسرائيليين في لندن، فيما يبدو أنه جولة جديدة من اتصالات ولقاءات جرت على مدى الشهور الفائتة، بل ربما على مدى أكثر من عامين فائتين، والجديد هذه المرة هو بيان صدر عن وزارة الخارجية التركية، وأشار إلى أن "الطرفين حققا تقدماً نحو إتمام الاتفاق، ومناقشة اختلافاتهما، وهما مصممان على التوصل لاتفاق في الاجتماع المقبل".
منذ العام 2013 توصل الطرفان إلى تقدم، شمل تقديم اعتذار الإسرائيليين عن استهداف أتراك كانوا على متن سفن إغاثة موجهة إلى قطاع غزة، عام 2010، واتفقوا على قيام الإسرائيليين بدفع تعويض لضحايا الاعتداءات. وبقيت الخلافات بين الطرفين، تتعلق بالمطالب الإسرائيلية عدم السماح بتحول الأراضي التركية لقاعدة لقياديين في حركة "حماس"، خصوصاً من يرتبطون بالمقاومة العسكرية، في المقابل المطلب التركي هو رفع الحصار عن قطاع غزة.
يبدو الطرفان التركي والإسرائيلي مهتمين بالتوصل لاتفاق، لأسباب ليس أقلها العلاقات التجارية والاقتصادية، والأتراك مهتمون بالتزود بالسلاح الإسرائيلي كما بالسياح الإسرائيليين، فضلا عن الخشية من تعقد الوضع الإقليمي إذا استمر التوتر التركي – الروسي، إذ تشكل روسيا شريكا تجاريا أيضاً للأتراك، والتوتر في سورية يهدد العلاقات. ويهتم الإسرائيليون بتركيا لذات الأسباب الاقتصادية، ولأنّ تركيا لاعب إقليمي مهم، والتوتر معها قد يدفع الأخير لزيادة دعمها للفلسطينيين، وتحديداً لحركة "حماس"، ولأنه يصعب التجرؤ على القيام بعمليات اغتيال أو استهداف للقيادات الحمساوية في تركيا، كما حدث في دمشق أو دبي، بالتالي لا يبقى سوى التسوية السياسية.
ما يبدو أنّه ممكن، أو يجري، هو اتفاق حل وسط، ففك الحصار رسمياً وكليّاً يتطلب الكثير من الاتفاقيات والتفاهمات، التي تعني في النهاية أن يعترف الجانب الإسرائيلي، بسلطة حركة "حماس" في القطاع، وهذا أمر يصعب تقبله إسرائيلياً، ولكن يبدو الحديث عن تسهيل تقديم الأتراك للمساعدات في القطاع، وتوصيل البضائع، ربما عن طريق الموانئ الإسرائيلية، فضلا عن المساهمة في حل مشكلات مثل الكهرباء، وبيان الخارجية التركية، دليل تقدم المفاوضات، وتهيئة الرأي العام لاتفاق محتمل.
ويبقى السؤال ماذا يمكن أن يقدم الأتراك بخصوص استضافة قيادة حركة "حماس"؟
ليس بالضرورة التوصل لاتفاق شامل في اللقاء المزمع قريباً، ولكن احتمالات اتفاقات وترتيبات تبدو كبيرة، اتفاق يتضمن تخفيف الحصار، ما يسمح بدفع العلاقات الثنائية التركية الإسرائيلية قدماً، وفتح الأبواب لترتيبات إقليمية أوسع.
أحد مصادر القلق من الدور التركي، هو ذاته سبب يقلص فرص فك الحصار، وهو أنّ أي تفاهمات في غزة دون اتفاق فلسطيني – فلسطيني شامل، ودون تطبيع العلاقات بين غزة ومصر، يبدو أمراً معقداً، ويقلص فرص حل مشكلات القطاع، ويبقى الأمر في إطار التسكين وتخفيف الحصار، وليس العودة إلى حياة طبيعية، وبقدر ما قد يخفف الدور التركي الحصار بقدر ما قد يطيله، خصوصاً إذا توصلت قيادة حماس في القطاع، لاستنتاج أنّ الأمور في طريقها للحلحلة، بفضل أنقرة، وعلى طريق تطبيع العلاقات مع القاهرة، فتقل حماستها لتسوية العلاقات مع رام الله.
لا يبدو أن خطوط التفاهم أو التنسيق بين أنقرة ورام الله نشطة، ولكن ممكن فلسطينياً استغلال الموقف التركي، بحديث عن رزمة كاملة تتضمن جهدا تركيا، وتنسيقا مع القاهرة، بحيث ترتبط ملفات الوحدة الفلسطينية الداخلية مع فك الحصار. وليس المقصود رهن فك الحصار بالمصالحة، بل بالعكس جعل المصالحة عاملا مساعدا لفك الحصار، وجعل الأتراك عامل ضغط على الإسرائيليين لعدم عرقلة واعتراض المصالحة الفلسطينية، ويمكن استثمار مواقف من القاهرة والدوحة، لوضع خطة لترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وفك الحصار، فتشكيل حكومة وحدة فلسطينية حقيقية من شأنها نزع الكثير من ذرائع الإسرائيليين لتأخير فك الحصار.