لا تبدو الحالة الفلسطينية على خير ما يرام، ولا حتى بشكل جيد، هذا إن لم تكن في حالة بائسة، أو حتى في أسوأ حالتها، التي مرت بها منذ عقود مضت، وهذا الأمر لا يقتصر على الحالة السياسية الخارجية، وليس بسبب تراجع مكانة القضية الفلسطينية ومستوى الاهتمام الدولي بها، وحسب، ولكنه ينطبق بالأساس على مستوى العلاقات الداخلية بين فصائل العمل الوطني والإسلامي التي تقود الشعب منذ عقود، بهدف تحريره من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولته المستقلة وعودة لاجئيه وحقوقه الوطنية بالحد الأدنى المقبول.
الهبة الشعبية التي اندلعت، منذ ستة شهور، خبت جذوتها، وتراجع منسوبها، ومنذ أسابيع، لم تشهد مدن الخليل والقدس ونابلس أية عمليات ضد الاحتلال ومستوطنيه، بل إن «الغضب» الداخلي شهد «تنفيسات» داخلية له، ظهرت في غير مكان، على أنها حالات عراك أو انفلات أمني أو ما شابه، ولا شك بأن العقلاء من أبناء شعبنا يدركون أن «ثمار» الانقسام «المزروع في أحشائنا، منذ تسع سنوات، لا بد أن تظهر هنا وهناك، إن عاجلاً أو آجلاً.
فسلطة فتح المتفردة في الضفة الغربية، لا تسمح لحماس ولا لغيرها بفرض برنامجها الخاص، على السلطة، حتى لو كان برنامج المقاومة وفق المفهوم الحمساوي، وسلطة حماس لا تسمح لحركة فتح ولا لغيرها بأن تتظاهر ضد الانقسام، ولو بعقد مؤتمر شعبي، أو بالحشد لتظاهرة عامة، وهكذا يستمر الانقسام وتتوالى خيبات الأمل، فلا تنجح حماس في فك الحصار عن قطاع غزة، مهما حاولت أو سعت، لا عبر الأتراك ولا عبر المصريين، ولا تنجح فتح في إنهاء الاحتلال عن الضفة الغربية مهما حاولت، لا من خلال الحركة السياسية / الدبلوماسية ولا من خلال الدعوة لمقاومة شعبية / سلمية.
مظاهر العجز عديدة، كذلك أشكال الوهم متعددة، ومنها القول: إن «م.ت.ف» هي المرجع السياسي أو السلطوي للسلطة.
وكما هو معروف، وعبر السنين التي مضت، شكلت «م.ت.ف» جبهة وطنية موحدة، وإطاراً جامعاً لحركة التحرر الفلسطينية متعددة الفصائل، وحتى حين كانت الجبهة الشعبية، المعروفة بمواقفها الرفضوية سابقاً، تعلن رفضها لموقف سياسي لفتح قائدة المنظمة، كانت تنسحب _ فقط _ من المستوى التنفيذي للمنظمة، أي اللجنة التنفيذية وليس من المجلس الوطني أو المركزي.
«م.ت.ف» ليست مرجعاً للسلطة في شيء، فلجنتها التنفيذية تجتمع، حين تقرر السلطة، وتتخذ قرارات، هي والمركزي لا يمكنهما أن تفرضها على أحد، ولعل كون شخص الرئيس محمود عباس، هو رئيس المنظمة والسلطة، يبقي على «الوهم» الذي يقول بسلطة المنظمة على السلطة.
المهم في الأمر، أن قادم الأيام ينبئ بظهور اختلافات وافتراقات وحتى انقسامات، حتى لا يبقى الانقسام السياسي بين فتح وحماس، بين الضفة والقطاع، هو الانقسام الوحيد، وأيا يكن تبرير تأخير أو وقف مخصصات الجبهتين الشعبية والديمقراطية من الصندوق القومي، فإن الأمر يعتبر إشارة، وبتقديرنا فإن تلك المخصصات ما هي إلا شعرة معاوية بين فصائل «م.ت.ف»، فإن انقطعت انهارت المنظمة التي لم تعد سوى هيكل ليس له فاعلية حاسمة على الأرض، على أية حال.
وحيث إن حوارات فتح وحماس التي تجاوزت عشرات اللقاءات التي كلفت خزينة السلطة عدة ملايين من الدولارات، نجحت فقط، في فترات متقطعة في وقف التراشق الإعلامي بين الحركتين، بما كرس حالة من التوافق في ظل الانقسام، فإن تراشقاً من مستوى آخر يحدث الآن بين الشعبية وفتح، أو داخل فتح بين أحد قياداتها وأحد وزرائها بشأن تعيين وكيل لوزارة من وزارات السلطة، أو بين حماس والمجتمع المدني!
الأمر يصل لداخل الفصائل نفسها، فمؤشرات التشظي تتسارع، فحماس _ مثلاً _ كلما احتاجت لموقف سياسي، تعد العدة «لسفر برلك» من أجل ما تسميه التشاور بين قياداتها، وفتح تعجز عن عقد مؤتمرها السابع، والكل يعجز عن عقد أجتماع للأطر القيادي فضلاً عن الوطني والمركزي، وتبدو قياداتنا كلها «كل من إيده إله» وبين فتح والسلطة والأجهزة نوافذ وأبواب، ولم يعد لفتح مجموعات عسكرية تذكر، أما بين قيادة حماس السياسية والجناح العسكري، فألف حاجز وحاجز، ولا نعتقد أن لقيادة حماس السياسية سلطة نافذة على جناحها العسكري الحاكم _ خاصة _ في غزة.
مختصر القول: إنه يبدو أن الحياة الديمقراطية الداخلية بين الفصائل، فيما بينها، وفي داخلها، قد تلاشت، لذا فإن مراكز القوة قد تعددت، وصار مصدر القوة هو، المال، أو امتيازات السلطة، ولم يعد هناك من التزام بسياسة عامة للفصيل أو التزام بسياسة وطنية عامة.
ومعروف أنه حين تفقد القوى المتعددة، التي تشكل بمجموعها جبهة وطنية، البوصلة تجاه العدو الخارجي المشترك، فإنها تتفرغ للتصارع الداخلي، وهكذا يبدو أن الداخل الفلسطيني سيظل مشغولاً بحاله، إلى حين يجيء جيل جديد يقلب الطاولة على كل هذا الكم السياسي المترهل والشائخ، الذي يذكرنا بما كان عليه الحال قبل العام 48 من وجود «أحزاب» جهوية وعائلية، مع وجود مجموعات مقاومة متناثرة، غير موحدة -مناطقية، بلا قيادة موحدة، حتى ذهبت ريحهم جميعاً، وكأن التاريخ يعيد نفسه بشكل أو بآخر، لذا نبقى في انتظار الحلقة التالية، كما ظهرت بشارات الثورة في 65 / 67، لا بد أن يظهر جيل جديد يقلب الطاولة على كل هذه الحالة بكل تفاصيلها، لأنه لم يعد ممكناً «إصلاحها» لا بالترقيع ولا بالرتي، فثوبها اهترأ تماماً، وعصرها انتهى، وبات وراء الظهر، حملاً ثقيلاً، مرهقاً ومملاً.