مع تغير الأزمان تتغير الظروف وتتغير معها الحسابات ويصبح بعض ما كان طلباً او هدفاً واقعياً او محقاً غير مقبول وغير مناسب. هذه الحقيقة تفعل فعلها بالسياسة وقواعدها وصراعاتها كما في مناحي الحياة الأُخرى. بمناسبة انعقاد جنيف 4 للحوار حول سورية، تحضر هذه الحقيقة، فالظروف والتوازنات القائمة الآن تختلف عن تلك التي كانت قائمة ايام جنيف1، وأعطت نتائجه المعروفة. هناك مستجدات حصلت على الأرض السورية ترمي بثقلها على مسار حوارات جنيف 4 والنتائج التي يمكن ان تخرج عنها. المستجدات في طرف النظام السوري وحلفائه، عززت في محصلتها استقراره وقوته، بعد ان كان الحديث يدور حول توقيتات متتابعة لانهياره. اهم هذه المستجدات ثلاثة: الأول، دخول الحليف الروسي وانخراطه المباشر في الصراع دعما وتثبيتا للنظام سياسيا وعسكريا وتسليحيا، مع استمرار تحالفات النظام الأُخرى ثابتة وفاعلة. والثاني، تحقيق النظام إنجازات عسكرية هامة على الأرض، ونجاحه في عقد عشرات المصالحات مع قوى معارضة في اكثر من منطقة. والثالث، الزيادة الملحوظة في مساحة الأرض التي يسيطر عليها من مجموع جغرافية الوطن السوري. والمستجدات المذكورة تكاملت مع ثبات وربما زيادة القاعدة الشعبية للنظام، وبنتيجة هذه الإنجازات فقد أسقطت معظم القوى الدولية المؤثرة شرطها المسبق برحيل الرئيس الأسد كبداية لأي حل سياسي. حتى تلك القوى التي ما زالت تنادي برحيله قبلت بتأجيل البحث فيه الى مرحلة قادمة غير محددة في مسار العملية السياسية. الإنجاز الذي حققته المعارضة تمثل بنجاحها بتوحيد عدد من أطرافها وقيادتها في مؤتمر الرياض، بما سمح لها، بدعم من حلفائها الإقليميين والدوليين، الإصرار بان تكون الطرف المفاوض الوحيد باسم المعارضة. لكن هذه المعارضة، لا تملك من القوة العسكرية ومن السيطرة على الأرض ما يدعم هذا الإصرار، فرغم الانضمام القلق والمتردد لقوى معارضة عسكرية محدودة الى صفوفها، لا تزال القوى العسكرية المؤثرة والمسيطرة على الأرض، من جهة المعارضة، هي التنظيمات الإرهابية ( داعش والنصرة وحلفاؤهما) وهذه لا تدخل في مسار جنيف، ولا الحل السياسي عموما، وهناك اتفاق عام على استبعادها ومحاربتها. ثم ان هذه المعارضة ( معارضة الرياض) لا تستطيع البرهان على وجود قاعدة شعبية ملموسة لها، ما يبقي جماهيريتها وشعبيتها في موضع الادعاء. وهذا مجتمعاً، يترك قوة هذه المعارضة محصورة في دعم حلفائها الإقليميين والدوليين ودرجة تمسكهم بها، ويترك قرارها وموقفها أسيراً لأولئك الحلفاء وخططهم ومساوماتهم. بينما، هناك أطراف معارضة أُخرى ( غير داعش والنصرة وحلفائهما) مرفوض مشاركتها رسميا في مفاوضات جنيف، تملك حضورا عسكريا على الأرض وقاعدة شعبية لا يمكن إنكارها. انجاز تدمر الذي حققه النظام كان نوعيا ولاقى صدى عالميا واسعا، خصوصا وقد تبعه إنجاز القريتين، وانه فتح على بادية الشام بكل اتساعها. وخصوصا ايضا، ان النظام يبدو مستمرا في سعيه لتحقيق إنجازات أُخرى. من الطبيعي ان يعمل النظام على الاستفادة من هذا الإنجاز ويوظفه في حركته السياسية عموما، وفي أعمال جنيف4 بشكل خاص. دونما تعارض مع تبشير رأس النظام بالمرونة السياسية وتأكيده على الحل السياسي بانسجام مع توجه وخيار الحليف الروسي. باتفاق او بدون اتفاق، فمن الطبيعي ان تسعى المعارضة (المفاوضة) للاستفادة من التصعيد اللافت في هجمات المعارضة، على اختلاف تسمياتها على مواقع النظام، ومن اي نجاح تحققه. كما حصل في بلدة العيس وتلّتها الاستراتيجية، وفي بلدة "الراعي" الاستراتيجية، وفي اكثر من هجوم تقوم به المعارضة الإرهابية على اكثر من موقع. ليس المهم بالنسبة لهذه المعارضة من يقوم بالهجوم او يحقق الإنجاز، المهم انه يخصم من رصيد إنجازات النظام ويحد من قدرته على توظيفها السياسي، ويشوش على الإنجاز النوعي في تدمر والقريتين، ويضعف مفاعيله. ليس من المتوقع أن تحقق جنيف 4 نتائج حاسمة. يكفي ان تبقي الباب مفتوحا أمام استمرار الحوار لكي لا تعتبر فاشلة. فلا يزال البون شاسعا حول: - أولوية الحكم الانتقالي دونما ربط واقعي له بالحرب على الإرهاب كما تطالب المعارضة، مقابل أولوية الحرب على الإرهاب كما يصر النظام. - طبيعة المرحلة الانتقالية، بين هيئة انتقالية كاملة الصلاحية لا دور فيها للرئيس الأسد تكون هي "المخولة إدارة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية" بسلطات كاملة وتمكنها من "حفظ الأمن وإعادة الحياة الطبيعية" كما تطالب المعارضة، وبين حكومة انتقالية تجهز لدستور جديد وانتخابات عامة كما يقول النظام. المعارضة أضافت الى رؤيتها هذه للمرحلة الانتقالية انه "لا بد من إصلاح الجيش والأجهزة الأمنية بإشراف مجلس الأمن الوطني الذي تشكله الهيئة الانتقالية". وهو مطلب لا يمكن تصور ان يقبل به النظام وقد يكون الإصرار عليه في هذه المرحلة هو المفجر لكل جنيف؟ الا اذا كانت إضافته لمجرد المساومة. هذا المطلب في غير زمانه وغير موقعه وظروفه الطبيعية يغذي شكوك الكثيرين ان ضرب الجيش العربي السوري كان من الأهداف الرئيسية - ان لم يكن الهدف الرئيسي- وراء كل ما جرى لسورية، ليتم إلغاء دوره بالمنطقة، تماما كما خطط للجيش العراقي ونفذّ، وكما يخطط لإضعاف الجيش المصري بإشغاله بحرب إرهابية داخلية. - حول الرؤية لقوى المعارضة غير الإرهابية الأُخرى والموقف منها ومن مشاركتها في الحوارات وفي الحل. ثم حول الموقف من حديث الفدرالية واللامركزية وعديد من القضايا والعناوين الأُخرى ستدور الحوارات. الأهم ان تستمر بجهد وطني صادق لتخليص سورية مما هي فيه.