تكثفت، في الأيام الأخيرة، التقارير العسكرية الإسرائيلية الملأى بالتهديدات المبطنة للفلسطينيين. وشهدنا في الماضي أن مثل هذه التقارير والتصريحات كانت تسبق كل عدوان على الشعب الفلسطيني. واحتمال شن عدوان جديد قائم جدا، لأن العقلية المسيطرة على قادة الاحتلال، تعتقد أنه بعد كل عدوان تنشأ ظروف جديدة، تبعد أكثر إقامة الدولة الفلسطينية، وتثبّت سيطرة الاحتلال على الأرض.
تركزت التقارير الأخيرة حول تراجع العمليات الفلسطينية الفردية في الشهرين الماضي والحالي، مقارنة مع ما كانت عليه قبل ستة أشهر. وراح قادة الاحتلال، من بنيامين نتنياهو ووزرائه وقادة العسكر، يتباهون أمام جمهورهم زاعمين أن هذا ناجم عن القبضة الحديدية التي استخدمها الاحتلال، وشكّلت رادعا للجمهور الفلسطيني وحركة المقاومة الشعبية.
وهذا بحد ذاته كذب وبث أوهام، لأن كل المؤشرات التي ظهرت في الشهر الأول للهبّة الفلسطينية، مع كل ما أبدته من زخم، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كانت تدل على أننا لسنا أمام انتفاضة شعبية عارمة، على شكل انتفاضة الحجر التي اندلعت في نهاية العام 1987، أو في الأسابيع الأولى للانتفاضة الثانية في خريف العام 2000. ونشب في الأشهر الأخيرة جدل حول تسمية النشاط المقاوم، إذ رأى كثيرون أنها انتفاضة، فيما أن وصْفها بـ"الهبّة" لم يكن انتقاصا مما يجري، لأنه مهم جدا، وكان بمثابة رسالة إنذار شعبية جدية وشجاعة للاحتلال، بأن لا يغرق أكثر في وهم استدامته.
ويقول قادة الاحتلال إن هذا التراجع الكمي في العمليات الفلسطينية لا يعني انتهاء هذه الموجة من المقاومة الشعبية، بل إنها قد تندلع بقوّة أكبر من جديد في المرحلة القريبة. وهذا اعتراف صهيوني جديد بأن الشعب الواقع تحت الاحتلال لن يستسلم ويرضخ لواقع الاحتلال. بل إن نَفَس المقاومة ما يزال يولد من جديد مع ولادة كل طفل فلسطيني، إذ يكفي أن نشير إلى أن 50 % من العمليات نفذها من هم دون سن 20 عاما، ونسبة عالية ممن هم دون سن 18 عاما.
وأمام هذا الاعتراف، فإن جيش الاحتلال أرسل في الأيام الأخيرة وحدات أخرى من عسكره إلى جميع أنحاء الضفة المحتلة. وهذه القوات لن تكون مهمتها الاستعداد لأي طارئ فقط، بل أيضا المساهمة في تضييق الخناق على الحياة اليومية للفلسطيني، من خلال انتشار الحواجز العسكرية على الطرقات، وتعطيل حركة الحياة العامة والتنقلات، وتكثيف الاقتحامات للبلدات الفلسطينية.
وفي اليومين الأخيرين، ظهرت تقارير أخرى لجيش الاحتلال، تحذر مما سمته "تعاظم القوة العسكرية" لحركة "حماس"، وأن الحركة تستعد لإشعال الميدان من جديد. وهذه تقارير تناقض تقارير أخرى صدرت حتى قبل أسابيع قليلة جدا، كانت تقول إن "حماس" ليست معنية بمواجهة عسكرية في هذه المرحلة، ومثل هذا سمعناه أيضا من بعض قادة الحركة. ورغم ذلك فإن الجيش بدأ أيضا يرسل وحدات أكثر نحو قطاع غزة.
وما يزيد من احتمالات أن حكومة نتنياهو تسعى إلى عدوان جديد، هو أنها تسعى يوميا للاستفزاز بشتى المسارات، من خلال سلسلة المشاريع الاستيطانية، وتدمير البيوت الفلسطينية في أنحاء شتى من الضفة والقدس المحتلة، بادعاء ما يسمى "بناء غير مرخص". ويجري الحديث عن رفع وتيرة تدمير البيوت في الأشهر الأخيرة، بأربعة أضعاف ما كانت عليه من قبل. كذلك، وحينما يدعي الاحتلال أنه ليس معنيا بتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف، فإنه يفسح المجال أمام عصابات المستوطنين ليفعلوا فعل حكومتهم من استفزازات في الحرم ومحيطه.
في المقابل، فإن احتمال شن العدوان، ستساهم في حسمه حسابات ربح وخسارة حكومة الاحتلال وأحزابها؛ إضافة إلى حسابات إسرائيلية على مستوى الساحة العالمية. ففي حين أن كل عدوان يشحن أجواء العنصرية المتطرفة، بما يعزز قوة اليمين المتطرف الحاكم، فإن عدوانا كهذا قد يشوش عملية ترتيب إسرائيل لأوراقها في الحلبة الدولية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وأولاها، طمس القضية الفلسطينية وإبعادها عن واجهة النشاط السياسي العالمي. وهذا بالضبط ما أقلق إسرائيل من الهبّة الشعبية الفلسطينية في الأشهر الأخيرة؛ إذ رغم محدوديتها شعبياً، إلا أنها نجحت في وضع القضية الفلسطينية مجددا في واجهة الحراك الدولي.
عن الغد الاردنية
غزة هزمت إسرائيل: ماذا بعد؟
11 أكتوبر 2023