إقـــــرار....................د. رفعت السعيد

thumbgen (3)
حجم الخط
 

أقر أنا الموقع أعلاه لكل الأحباء الذين يتلقفوننى حيثما وجدونى سائلين فى توتر «إحنا رايحين على فين؟» و «أنت متفائل والا متشائم» ولا أملك اجابتهم بقول الصديق الراحل إميل حبيبى «متشائلا» حتى لا أستدرج إلى شرح طويل فأكتفى بالقول «ربنا حيسهل» أو «خير إن شاء الله» و الآن أقر وأعترف لهم جميعا بحقيقة ما أعتقد .

وأبدأ باعتراف بأن الوضع معقد ، هكذا فى الظاهر لأنه فى الواقع وإذا ماأعملنا العقل وليس النقل عن أوامر صندوق النقد الدولى يمكن أن نراه قادراً على الحل بأبسط مما يتبدى . وحكومتنا المرتبكة أصلا ، والمرتجفة أيضا تراوح مكانها بعد أن أجهدت مترجميها فى ترجمة المفردات المخترعة حديثا لحساب الرأسمالية المتوحشة مثل «الحماية الاجتماعية» و «تحييد الفقراء» محاولة فى توسل أحيانا أن نقبل بابتلاع هذه المخترعات الغاشمة. ولعل من حق الأحباء المحتارين أن يعرفوا معنى «الحماية الاجتماعية» فهى مثلا أن تساند سكان العشوائيات بإجراءات مظهرية وعشوائية طلاء واجهات العشش أو منح السكان شققا أو إضاءة الحارات، وكل هذا جيد وضرورى لكن الفقير يبقى فقيرا والعاطل عاطلا وعشوائيا هو ذاته.

أما « تحييد الفقراء » فترجمتها أن نتناساهم ونتركهم دون دفاع عن حقوقهم بحجة أن الدفاع يستثير الغضب ، والغضب «مش وقته» لكننا لن نخدع بمخترعات الصندوق الدولى وسنواصل مطالبين بشىء آخر هو وبوضوح العدل الاجتماعى الحقيقى القائم وبوضوح على رؤية تحاول إعادة توزيع الدخل بقدر ما ولو محدود من العدالة، لكن حكومتنا تتبدى وكأنها مقيدة الخطى وتتمسكن لنا بدلا من أن تفصح عن التهاب الأسعار وعن أسباب إشعال أسعار الشرائح الدنيا من استهلاك المياه والغاز والكهرباء مثلا بحجة أن مفيش فلوس، وكأن الحكومة مصابة بالحول فى عينيها فلا ترى سوى امتصاص عرق الفقراء وأفقر فقرائهم ولا ترى أبدا ذلك التراكم المتوحش لثروات كبار كبار المليارديرات، والحجة البائسة واليائسة جاهزة لا نريد تطفيش المستثمرين ، ناسين أن مليارديراتنا يعتبرون أن مصر هى مجرد مساحة من أرض ينهبون ثرواتها ، وأن الضمير مفتقد وحتى الإيمان بالآيات الكريمة مثل «وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم» يتناسونه إن تلامس معهم، وهم عندما يهددون كل من يحاول أن يمس تكالبهم المتوحش على مراكمة ما تبقى من خيرات هذا الوطن يعرفون أن هذا « تهويش» فلا مكان فى العالم ولا حكومة فى العالم تنحنى أمام جشعهم إلا فى مصر.

وعندما نقول بعضا من ذلك تتصاعد زفراتهم هم ورجالهم من الإعلاميين والبرلمانيين «مش وقته» نحن فى محنة والإرهاب يحاصرنا والأعداء يتربصون والإخوان الإرهابيون يحرضون، وفى هذا قدر كبير جداً من الصحة، فأنا أقر وأعترف أن مصر مستهدفة ويتربص بها خصوم كثيرون يتحينون الفرصة لتوجيه سهامهم ضدنا وتعبئة العالم لمخاصمتنا، وأقر وأعترف أن أمريكا والناتو والإرهابيين الإخوان يحرضون ويتربصون ، وإن حدودنا مهددة وتستهدف استنزافنا، وإن جيشنا وشرطتنا تقدمان شهداء بلا حصر ، وتضحيات تملأ قلوب المصريين بحزن مرير ، وأعترف أن وقائع قد تخترع ، وأخطاء قد جرى تضخيمها ، وأن إعلامنا يتصرف أحيانا بلا وعى وأحياناً لكسب مزيد من الإعلانات وأحيانا بأمر مخطط .. وكنموذج واقعة ريجينى وتجربتى أننى طلبت للتدريس فى قسم ALO بالجامعة الأمريكية عام 1992 لأدرس لمجموعة من الباحثين أغلبهم أمريكيون وأحيانا يكون بينهم سويسرى أو فرنسى أو إيطالى أو يابانى كل منهم يعد دكتوراه فى موضوع مختلف عن الآخر، وكنت أدرس لهم علم «مناهج بحث» وهو علم درسته فى ألمانيا وبعد فترة اكتشفت أن بعضاً منهم ربما ـ أقول ربما ـ كان يحاول أن يتعرف على أدق تفاصيل الحياة المصرية وأن تخصصهم مقصود، وبعد سؤال اكتشفت أن الأمن المصرى يعرف أن بعضهم موفد لذلك.. وأن وضعهم يمنحهم حصانة وأقصى ما يفعل فيهم هو إبعاد بمعروف فالأجهزة تعرف بروتوكولات التعامل مع الأجهزة .

ثم نأتى إلى أصل الحكاية «تحييد الفقراء» وهو ما لم نفعل ولن نفعل سنظل ندافع عنهم وعن حقهم فى عيش كريم ولن يكون ذلك فى اعتقادنا إلا «بفرض» وأكرر «بفرض» وليس باستجداء ضرائب تصاعدية، فإن كان ثمة مصدر آخر فليقولو لنا . وأود أن أقرر أن من يتصور أننا نستثير الفقراء ونحرضهم مخطئ فأنت لا تحرض النمر على الافتراس فهو مفترس بطبعه ، والفقير الجائع والذى تمد الحكومة العليلة يدها فى جيبه لتأخذ منه آخر قطرات العرق ، والذى يغرقه ارتفاع كل الأسعار هذا الجائع يتأمل الثراء الفاحش والمجنون والأفراح التى ينفق عليها مئات الملايين. بينما أولاده جوعى ماذا تنتظرون منه؟ فحذار من زلزال قد يأتى دون توقع . تعالوا نتفق جميعا . نأخذ بعضاً من تلال أموال كبار الأغنياء لنقدمه للفقراء لنسد بعضا من حاجتهم. وهنا يمكن أن نستأذنهم فى انتظار لأمد نرتب فيه أوضاعنا الاقتصادية ونعالج الخلل فى علاقاتنا الاجتماعية. ما رأيكم أيها الحيارى وما رأى حكومتنا إذ ترى بعد أن تعالج الحول فى عينيها ؟

عن الاهرام