د. عبد القادر فارس " قصة قصيرة : انتصار "

thumbgen (2)
حجم الخط

 كانت وقع المفاجأة عليها صاعقا , وكانت الصدمة شديدة , عندما أخبرتها طبيبة الفحص الدوري في حملة مكافحة السرطان , أنها مصابة بسرطان الثدي , حاول زوجها مواساتها وتشجيعها لمواجهة المصاب , لكنها لم تتحمل أي كلام وقتها , لكنها عندما عادت إلى البيت استرجعت هدوءها , حتى لا يشعر الأبناء بحال أمهم , صلت ركعتين لله , ودعت الله أن يجعلها من الصابرين على هذا البلاء , ودعت ربها بالشفاء , وقررت المواجهة والتحدي , فهم تعلم أن الارادة في مثل هذه الأمور تعني نسية 50% من الشفاء , ولا بد لها من الانتصار في معركتها القادمة , وحين أخبرها الطبيب الجراح أنه يجب استئصال الثدي المصاب , حتى لا يتمدد المرض اللعين لباقي الجسد , تقبلت الأمر بهدوء , وقالت أفوض أمري إلى الله.

وبدأت الرحلة , رحلة العلاج والعذاب , حيث الغياب عن الزوج والأولاد , وعند وصولها إلى المستشفى لإجراء العملية الجراحية التي ستتبعها رحلة أشد وطأة من العلاج الكيماوي والاشعاعي , للقضاء تماما على المرض , سلمت أمرها لله , كانت امرأة مؤمنة وصابرة , فهذا قدر الله , ولا راد لقضائه , بعد الفحوصات السريرية السابقة للعملية الجراحية , قابلها الطبيب الجراح , كان انسانا بمعنى الكلمة , شجعها , مازحها , أزاح عنها الهم والألم , وأخبرها بشرى سارة : سيدتي أنت بخير , والمرض لا زال في بدايته , ولكن أطلب منك أن تكوني شجاعة وصاحبة إرادة وتحدي حتى نخوض المواجهة سويا , تنفست الصعداء طويلا وظهرت عليها ملامح الراحة في انتظار ما سيفصح عنه الطبيب أكثر , فاجأها أكثر , سيدتي لن نستأصل الثدي , فقط سأقوم باستئصال الجزء المصاب " الورم " , فأنت صغيرة وجميلة , ولا أريد تشويه هذا الجمال الذي خلقه الله في المرأة , تظاهرت بالقوة , وقالت لطبيبها لا يهمني إذا كان الاستئصال الكلي أفضل للشفاء فاستأصله , غير أنه أصر على ما قاله لها , وزاد في تشجيعه لها.

في اليوم الثاني للعملية تحسست صدرها , يا الله ما أرحمك , ما زال الثدي يزين الصدر, ومازال الثدي الذي داعبته أنامل زوجي وأرضع أطفالي مكانه , حمدت الله كثيرا , صلت ركعتين من الشكر , شكرت طبيبها الانسان والفنان , الذي أعاد لها الابتسامة والجمال والكمال.

وتتواصل الرحلة , بعد أن أخبرها الطبيب أنها ستطول , وسيكون فيها الألم والوجع أكثر من العملية ذاتها , فالعلاج الكيماوي , سيؤدي لسقوط شعرها , من شعر الرأس إلى الحواجب إلى الرموش , يا الله كيف سيكون منظرها , أخذت تحدث نفسها , وكيف سيكون موقف أطفالها وهي بهذا الشكل الجديد , وإذا كان زوجها سيتقبل ذلك , فكيف بباقي الأهل والجيران والأصدقاء , هل تعزل نفسها ولا تواجههم , لا وألف لا , لا بد من المواجهة , وبدأ تساقط الشعر , وبدأت الملامح تتغير , وقرر الأطباء منحها باروكة شعر لغطاء الرأس العاري , لكنها رفضت استخدام الباروكة , فهي في الأصل تغطي رأسها منذ يوم زواجها بحجاب الرأس الجميل , ولن يشعر أحد ممن حولها أنها باتت بلا شعر الآن , ويمكن للحواجب التي تساقط شعرها أن ترسمه بالقلم الأسود , أما الرموش فلحسن الحظ أنها لم تسقط , وبقيت تجمل العيون التي تنظر إلى هذا الكون بكل أمل في الشفاء والعودة للزوج والأبناء .

استمرت الرحلة بعيدا عن الأهل والدار ثمانية أشهر , عاد الشعر أجمل مما كان , ناعما وأسود طويلا براقا , هل كانت بحاجة إلى تغيير شعرها وحلقه تماما حتى يعود بهذا الجمال , كما أن العلاج الكيماوي زاد وجهها حمرة وجمالا ونصاحة , فلم تعد بحاجة لوضع مواد التجميل والمكياج على وجهها , صارت تبدو أكثر جمالا مما قبل , يا الله ما أكرمك , لقد خلقت الانسان في أحسن تقويم , كانت سعيدة بكلمات الثناء ممن يزرنها للسلام عليها بعد عودتها من تلك الرحلة الطويلة , ها هو شمل الأسرة يلتئم من جديد و والسعادة تغمر الجميع ... وها هي اليوم تواصل روح التحدي فرحة بالانتصار الذي حققته , تزور صديقاتها المرضى اللائي كن يعالجن معها ولم يكتب لهم الشفاء بعد , تشجعهن , وتزرع فيهن روح الأمل بالشفاء والانتصار.