أثار قرار الرئيس قطع أو تجميد الحصص المالية للجبهتين الديمقراطية والشعبية سجالا ساخناً وسط التنظيمات السياسية. أكثر من تسع تنظيمات من داخل المنظمة وخارجها أصدرت بيانات مشتركة ومنفردة ضد التجميد والقطع وطالبت بالتراجع عنه.
المواقف المعارضة تتسلح بالنظام الأساسي للمنظمة الذي يحصر صلاحية اتخاذ قرار التجميد والقطع بالمجلس الوطني وحده، وفي أضعف تقدير يفترض عرض توصية من قبل الطرف الذي يريد القطع على اللجنة التنفيذية، وإذا ما اعتمدت ترفع للمجلس الوطني او للمجلس المركزي لاتخاذ القرار.
بعيدا عن المسوغ القانوني والنظامي القاطع الدلالة في عدم صوابية القطع أو التجميد، فقد احتل السجال حول أسباب ودواعي «القطع» الحيز الأكبر في وسائل الإعلام وفي إطار الحركة السياسية. فإذا كان التعدد السياسي مٌشَرَّعا ومأخوذا به في التجربة الوطنية، وتحديداً منذ سيطرت الثورة على المنظمة في العام 1969 ، فإن الخلاف السياسي وتعدد المواقف في إطار المنظمة على قاعدة التحالف والصراع كان طبيعيا وجسد نوعا من ديمقراطية فلسطينية في عالم عربي غير ديمقراطي آنذاك، ووصفت تلك الديمقراطية من باب التغني «بديمقراطية غابة البنادق». كان طبيعيا الاختلاف حول البرنامج المرحلي، وحول اتفاق أوسلو، والسلطة، والموقف من المحاور العربية، وصولا الى تطبيق قرارات المجلس المركزي بشأن وقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال. كان الناظم للعلاقة بين التنظيمات الوطنية هو البرنامج السياسي المشترك الذي يقره المجلس الوطني، ويعبر عن الحد الأدنى بالنسبة لبعض القوى، ويعبر عن الحد الأقصى بالنسبة لقوى أخرى. ضمن هذه المعادلة، ثمة برنامج وطني مشترك، وميثاق، وقانون أساسي تشكل جميعا ما يعادل عِقدا وطنيا اجتماعيا لجميع ألوان الطيف السياسي فضلا عن المجتمع داخل الوطن والتجمعات الشعبية خارج الوطن. وإلى جانب ذلك يحق لكل تنظيم ان يقدم برنامجه الخاص ويناضل من أجل أن يحظى بدعم وتبني الأكثرية له.
وعند الحديث عن البرنامج الخاص فإن ذلك لا يعني معارضته بالبرنامج المشترك، بل يعني احترام المشترك والحرص على إنجاحه وفي الوقت نفسه، هناك مشروعية السعي الديمقراطي المثابر لرفع سقف البرنامج المشترك من خلال كسب المزيد من المؤيدين والمتبنين له في صفوف الشعب. وفي سياق العملية الديمقراطية قد تتحول الأقلية الى أكثرية وفي هذا الحال يتغير البرنامج السياسي، وتتغير قواعد الميثاق عندما تحظى قوى التغيير بتأييد ثلثي الأعضاء في المجلس الوطني.
ما سبق أُخذ به بمستوى حد أدنى، وَعُدَ ذلك نجاحا للتجربة الفلسطينية. غير أن النجاح مر في حالة مد وجزر. كان المد بفعل التماسك الذاتي الفلسطيني، وجاء الجزر بفعل تدخلات الأنظمة العربية ومحاولاتها استخدام الورقة الفلسطينية لحساباتها الخاصة، كتحسين نفوذها الإقليميي. التدخلات العربية التي تناوبت عليها الكثير من الأنظمة، من مواقع أقل من البرنامج المشترك (الخليج ومصر كامب ديفيد)، ومن مواقع « راديكالية» ترفض برنامج الحد الأدنى المشترك الفلسطيني جملة وتفصيلا ( عراق صدام وسورية الأسد وليبيا القذافي)، تلك الدول التي لم تكن معنية أصلا بوجود برنامج بل كانت معنية باستخدام الورقة الفلسطينية فقط لا غير. التدخلان ومن موقعهما المختلفين، ألحقا ضررا بالقضية الفلسطينية، وقد تناوبا على إلحاق ضرر أكثر أو أقل تبعا لطبيعة اللحظة السياسية، وتبعا لحالتي ضعف وقوة الحركة السياسية الفلسطينية.
ما زلنا نشهد أشكالا للتدخلات الخارجية في الشأن الفلسطيني، تدخلات تتناسب طرداً مع حالة الضعف والتفكك الفلسطينية التي بلغت أدنى مستوى لها في أيامنا هذه. وأضيف للتدخلات السابقة في الشأن الفلسطيني تدخلات جديدة أكثر خطرا، كالتدخل الإسرائيلي والأميركي المخيف من جهة بعد أوسلو، والتدخل الإيراني الشبيه بتدخلات الأنظمة العربية، ما يؤكد على ذلك عدم اكتراث إيران بإنهاء الاحتلال الإسرئيلي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وما يستدعيه ذلك من تقوية الصمود الشعبي الفلسطيني اقتصاديا وسياسيا وبما في ذلك دعم المقاومة، بل إن ما يهم إيران هو تعويم وتضخيم موقفها إلى مستوى تدمير وإزالة إسرائيل! بالأقوال لأن ما يهمها هو امتلاك حصة من القضية الفلسطينية لتحسين نفوذها الاقليمي وما يستدعيه ذلك من استمرار المواجهة العسكرية مع دولة الاحتلال بقطع النظر عن خسارة وربح الشعب الفلسطيني.
الاستمرار بالنهج الديمقراطي كان يعني تعزيز الإصلاح الديمقراطي عبر تجديد البنية التنظيمية الشائخة، وإعادة بناء القاعدة الشعبية وأطرها النقابية والمهنية وتطوير الموارد المادية من داخل المجتمع، وتجديد الخطاب السياسي والإعلامي، وتطوير الديمقراطية بتجاوز أنظمة وتقاليد العمل زمن الكفاح المسلح وبخاصة المركزية الشديدة والأبوية والكوتا وهيمنة التنظيم الأكبر في إطار المنظمة ومؤسساتها لا سيما السلك الدبلوماسي ولاحقا السلطة. ما كان للتغيير ان يحدث تلقائيا وتكرما، وإنما عبر نضال ديمقراطي متواصل يُشرك القوى الشبابية والقطاعات الحية في المجتمع والتجمعات خارج الوطن وكل القوى التي لها مصلحة حقيقية في التغيير الديمقراطي. ولأن ذلك لم يحدث، ونظرا لاستمرار العلاقات القديمة التي بقيت سائدة ومعمول بها رغم تطاير كل ركائزها من أرض الواقع. بل حدث العكس داخل كل تنظيم بما في ذلك تنظيم فتح، وحدث العكس في العلاقة بين التنظيمات داخل المنظمة وخارجها. وأصبحت التنظيمات منفردة ومجتمعة منفصلة عن قواعدها الشعبية ولا تملك قاعدة اجتماعية صلبة، صارت تحت رحمة التدخلات الخارجية التي تغيرت للأسوأ، بتبدل اعتماد المتدخلين على تنظيم /ات الى علاقة مع وكلاء عابرين للتنظيمات. وكل الذين قبلوا بتلك الوكالات يبررون قبولهم بالدور الجديد بعناصر تشخيص واحدة ( الفساد، التسلط ، واللا ديمقراطية، والتفريط، والبكاء على أطلال الرئيس الراحل ياسر عرفات، وضرورة إنقاذ الوضع من كارثة قد تقع بين ليلة وضحاها). ينطلقون من أسباب حقيقية، لكنهم يتناسون أنهم جزء منها.
ما يحدث هو حالة من الخلط والتعويم، حالة من رؤية جزء من المشهد، جزء من المواقف، وجزء من العلاقات.
في الوقت الذي نحتاج فيه الى رؤية المشهد كله والبدء بمحاسبة الذات وتصويب المسار. اليوم حجز الأموال أو قطعها، وبالأمس سبات المجلس الوطني والتشريعي، وذوبان الصندوق القومي في موازنة السلطة، وكل الوقت الاعتماد على المال السياسي. ويبقى أننا سنبقى في مهب الريح ما لم تنطلق مبادرات مستقلة لبناء مسار جديد وعلاقات جديدة وبنية جديدة ؟