«وين عمودك»؟

0939285e43fb9bf4089d921891f9b404
حجم الخط

صار لي قرابة شهور أربعة (ثلاثة ونصف بالتحديد) وصاحب «أطراف النهار» هذه تحت مطارق مختلفة الوقع لسؤال واحد: «وين عمودك»؟
النهار يمحوه الليل، وبالعكس، ويبدو أن عشرين عاماً من عمود يومي (أكثر من 7000 عمود) لا يمحوها أقل من مائة عمود صار يصدر ثلاثة أيام في الأسبوع.
عادتي بقيت تلازمني، منذ أكثر من عشر سنوات: حبة يومياً لضبط الضغط، فهل بعض السائلين من القراء المياومين على العمود اليومي، اعتادوا تناول ما يشبه حبة ضغط؟
الزميل هشام كتب لي: اعتدنا أن حسن البطل هو العمود اليومي، والعمود اليومي هو حسن البطل. الزميل ابراهيم قال لي وجاهياً: ليش غيرت القرص؟ هذا موت قبل الموت. الزميل زياد قال: توقف عن الكتابة، فقد انتهى عصرك الجميل.
ما زلت مستعبداً من عادة القهوة والسيكارة. فنجانا قهوة عربية يومياً، لكن متلازمة السيكارة والقلم انفكت قليلاً، من علبة يومياً إلى ما في الكف من عدد أصابع اليد في غير أيام الأحد والثلاثاء والخميس.
قرأت، في عدد الأمس من «الأيام»، قولاً للرئيس الكوبي راؤول كاسترو (84 عاما) ومفادها يجب أن لا يتولى أي قيادي مهام منصبه إذا تخطى عتبة السبعين عامأً.
عندما أدرك الأديب ميخائيل نعيمة هذه العتبة وضع كتابه المعنون «سبعون». هل هي عتبة سن الحكمة، أو انني عندما تخطيت هذه العتبة قررت أن الوقت حان لأفك الارتباط اللعين، وخيم العواقب، بين كتابة عمود يومي وعدد يتعدى أصابع الكف من السكائر؟
معظم قادة الدول الديمقراطية والكبرى لهم من العمر ما يقل عن عمري. صحيح، أنهم محاطون بالمستشارين والمفكرين والجنرالات.. والمؤسسات أولاً، لكن كثافة الزمن النفسي لكاتب صحافي فلسطيني مواظب أثقل من زمانهم... هذا زعم؟
حسناً، عشرون عاماً من «العومدة» اليومية لكن سبقتها عشرون عاماً أخرى لقلم «مجنّد» في الإعلام الفلسطيني بعضها يومي، كما في تعليق يومي إذاعي، أو عمود يومي في جريدة «فلسطين الثورة» اليومية إبان حرب الحصار والاجتياح 1982، وبعضها مقالة أسبوعية، والذروة كانت 13 عاماً من إدارة تحرير مجلة «فلسطين الثورة» في قبرص، حيث كنت أكتب مقالة أسبوعية، مع تحرير 16 صفحة أخرى.
العمود اليومي ليس ملء سبعة أيام هي عدد أيام الأسبوع، لكنها أقرب إلى وطأة مضاعفة لسبعة ضرب سبعة مكرر.
في الأغنية: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى.. إلخ، وصاحب هذا القلم ينتقل من ملف السياسة إلى السيرة، ومن السيرة إلى المجرّة، ومن المجرّة إلى الخليّة، ومن ما يشبه القصص إلى الرثاء، وأيضاً إلى الرياضة. يعني: كاتب شامل كما قال المرحوم «أبو خالد» ـ محمد البطراوي.
متى بدأت التفكير بالتوقف عن العومدة اليومية؟ ربما منذ أن توقفت عن تخصيص عمود اسبوعي لتعقيبات القرّاء على مدى أكثر من سنتين، مع بداية حقبة الشبكات الاجتماعية وعزوف القرّاء عن الصحف اليومية.
لكن، عندما تبلغ السبعين، فأنت في الهرم العمري تمثل 3% فقط من الشعب، فكيف لك أن تكتب لشعب معظمه من الشباب؟
إمّا تكون المقالة أسبوعية، أو مرّتين في الأسبوع، أو تكون حسب المناسبة والظرف والمزاج متقطّعة، لكن نظام الأيام الثلاثة أسبوعياً، يبدو غير مألوف في الصحافة العربية والفلسطينية.
سائر الزملاء في «الأيام» تتصدّر أسماؤهم مقالاتهم: بقلم «فلان» لكن كاتب «أطراف النهار» يبقى وفيّاً للمدرسة الصحافية اللبنانية، حيث توقيعه في أسفل عموده وبخط صغير غير مظلّل، كما علاّقة الملابس مخفية.
لعلّ أجمل ما في عمود «أطراف النهار» هو اسمه، ولم أكن أدري أن زمناً عربياً رديئاً سيأتي وسيلائمه «آناء الليل» ويبدو أن عمر صاحب العمود سوف ينقصف قبل أن يطلع نهار آخر عربي!
قررت، نهائياً، أن أغادر «العومدة» اليومية، منذ أن احتفل، قبل عام، «اتحاد الصحافيين العرب» بيوبيله الذهبي، وكرّم سبعة أو ثمانية زملاء، كنتُ أحدهم، لكن شيخ الصحافيين العرب، محمد حسنين هيكل كان واحداً منهم.
هيكل صاحب المقال الأسبوعي الشهير، ثم صاحب المقال غير المنتظم، وكتب في المرحلة الفاصلة بينهما مقال: «أستأذن في الانصراف».
لكل قلم في الصحافة أن ينصرف إمّا باستئذان أو باحتجاب من غيره، أي بموجب فجائي أو بعد مرض، لكن بعض الأقلام، مثل الصحافي الإسرائيلي، أوري أفنيري، عمّرت وأدركت أوائل العقد العاشر، دون أن تفقد حيوية شبابها في أسلوب الكتابة، ممزوجة بحكمة العمر والتجربة.. لكنه يكتب بانقطاع!
لم يكن في بالي أن لا يحتجب عمودي يوماً، لكن رئيس التحرير هو الذي فضّل نشر أعمدة قديمة، أحياناً، مذيّلة بـ «من قديمه الجديد» إمّا لأن العمود كان «ساخناً» أو لأن صاحبه، منذ العام 2009 توقف عن كتابته وقت السفر، أو الإجازة السنوية.
محمود درويش نصحني بجمع مقالات معينة في كتاب عن وصف مكان فلسطيني زرته، بعد عودتي، وغيره نصحني بجمع مقالات في مجالات أخرى. نعم، جمعتها على جهاز الحاسوب، وسأتركها لمن يعيد ترتيبها، أو أن لا حاجة لذلك.
أطرف ما حدث هو أن نادي دبي للصحافة اختار كاتب العمود المصري أحمد رجب، وعنوانه «نصف كلمة» في مفاضلة بيني وبينه، ومنحه جائزة قيمتها 40 ألف دولار.
هو مات بعد الجائزة بقليل، وأنا قررت التوقف عن العومدة اليومية، لا لسببٍ بل لأنني أريد أن لا أدخن عدداً من السكائر يفوق، يومياً، عدد أصابع الكف.
حديدتي بردت !