هداية شمعون " الحب .. لك . الحرب.. لي "

thumbgen
حجم الخط

"الحب لك .. الحرب لي" رواية للكاتبة هداية شمعون ، واحدة من قدح الذاكرة في وجع الفلسطيني ، هناك حيث يغيب خلف القضبان ردحاً من العمر ، وهنا خلف الأسلاك المانعة للطيران والتحليق وحتى المشي في الاتجاهات الأربع ، ولأن الحكاية أشد قسوة كان لابد من مجزرة متخمة بالضحايا ، تلد بعد كل سنتين مجزرة أخرى لتصل الى شارع بسيط في رفح جنوب القطاع المنهك في سلة النكبات ، وفي هذا المشهد تبدع الكاتبة في وصف الضحايا ، فلا رأس لطفلة تحاول أن تكبر ثانية اضافية ، ولا ساق لكهل يمرن قلبه على تسلق صليب الحياة ولو لدقيقة أخرى ، ولا نقطة أمل لسيدة تحولت بجنينها الى مقبرة مصغرة ، ولا رجاء في منزل اتعبه الوقوف تحت اشعة الشمس فأزاحته الطائرات بصواريخها الى اللاوجود ، فأصبح هشيماً تذروه دماء الشهداء.

"الحب لك .. للغائب بدون أسم في الرواية ، تذكره الكاتبة كلما طحنت البطلة في مأساتها ، فينفجر سؤالها لماذا لا أكون حيث الحدائق وعطر المساء ، أكتب مشاعري على ورق من ندى واطرز للبعيد نبض قلبي فراشات تطير إليه عند الصباح ، هذا الحب المحشور في بارود الحرب ودخان المجزرة كان عموداً طويلاً للغد ، ينجو من كل ضربة نار ، ويفوز ببعث رسالة الى العاشق حيث هو .

"الحرب لي.. امتداد قصة شعب لا زال يتحمل قهر القسمة والنصيب ، بصبر أسطوري لا كائن سواه قادر عليه ، فالحرب الأخيرة كانت جلاء الحياة عن قشرة أرض أسمها قطاع غزة ، خمسون يوماً مضافاً إليها واحد يترنح بين القتلى والهدنة ، يزحف من مطرقات الغبش لكل متغير أصبح في غير مكانه ، فقطاع غزة في بيت محروق طيلة هذه الأيام ، والأخرون في الجوار ينتظرون الأرض السوداء برماد عظام أهلها ليعفوا أنفسهم من العون ، قلائل هم من مشوا على عكاز الضمير في عواصمهم فصرخوا بوجه الظلم ، وكثرٌ من شربوا الدماء بدمعة عابرة .

الكاتبة هداية شمعون واحدة من كل واحد عاش الحروب الأخيرة في قطاع غزة ، ولكنها من الناجين بشهادة حقيقية عن دموية المحتل ، فأغلب الذين عاشوا الحرب نظفوا الذاكرة من الدمار والدماء ، وفتحوا بوابة أخرى لحدائق العمر ، لعلهم يبدّلون الرصاصة بزهرة بيضاء ، ولكنهم لا يجيدون التلوين الى الأبد ففي قلب كل منهم ألبوم صور عن كل لحظة عاشها أمام البحر المدجج بالبوارج وتحت طائرات احتلت السماء ، ومن خلفهم أسلاك تقذف النار من مدفعيات غبية ، تقتل كل شيء حتى تلميذة في صفها الأول رتبت كراسها ليوم يحملها على ألواح ذات أمل ، ولكنها عبرت الى هناك في الغياب ، رأسها في ضفة ممر ضيق ، وجسدها تحت نافذة غرفتها .

الرواية شهادة عن حرمان البنت من أبيها لسبعة عشر سنة ، قضاها في معتقله ، كان وجعها محفوظ في ريقها ، تتوارى عن ترائبها لتبعد عنها مولودها المتزامن مع اعتقال والدها ، وكل حسرتها في أنها ابصرت النور الى الحياة عشية اعتقاله ، فتَلازمَ الشؤم فيها ، ولم تلتزم ببراءة الطفولة التي عفتها مما لا يد لها فيها ، ولم تكن سوى أمنية لديها خلاصها من صفة بغيضة بتحرير والدها من المعتقل ، وبعد سنوات اعتقاله والافراج عنه ، اغتسلت بندى وصابون السلامة من الشؤم اللعين ، وكانت فرحتها بإتساع عمرها، حتى ولو انكسرت ساقها وهي تنتظر حبيبها الأب ، ليجنح إليها في مستشفاها ويترك ضيوفه ينتظرونه أما عتبة بيته ، مرحبين بالإفراج عنه ، لينجح في أمتحانها الخبيء وتسر بنجاحه وهي ممددة فوق سريرها ،  عقدة حلت وابتسامة نبتت على شفاه حرية ، ولكن المرض كان عاجلاً في جسد الأبّ المحرر لتذهب الكاتبة بالبطلة الى رحلة ضنكة مع الأمنية والسراب ، وفي بيت العزاء حياة للسواد والبكاء والسيطرة على الجسد ، وإرهاق للروح ، وإصرار الهروب للحظة الى سرير الغائب وتحسس أثره ، و التعطّر بما ترك من غطاء توشحه ، ووسادة رافقته سنة كاملة ، لتصدق عويل النسوة في الجوار ، وتقول للغياب أهنت عليكْ؟!!.

هداية شمعون التي نجحت في تصوير مشهد الحرب والاعتقال والحرمان ، والطفولة الناقصة والملاصقة للشؤم، استطاعت أن تخلّد صورةً للحياة أخرجتها من تحت ركام المنازل المدمرة ، وسحبتها عن أجساد بلا توابيت في شوارع محفورة بالوجع ، ومخفية بدخان كثيف ، لتقول للعالم الذي ينسى بسرعة الطيران القاتل ، أن اللغة الرواية الغير مكتملة صرخة على رأس دمعة تكبر في صمتكم ، ويوماً ما ستشربكم مثلما شربت منا الكثير.

هداية شمعون صحافية فلسطينية وكاتبة إبداعية تعيش في مدينة رفح جنوب قطاع غزة ، وتعد من الناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة ، وباحثة في مجالات عديدة ، تعني بالتوعية المجتمعية ، والتدريب النفسي ، كما أنها أم لطفلين ، مسكونة بهموم الأخرين ، وتسعى لتكون شاهدة لا تنسى مأساة شعبها.