طفت على سطح المشهد الفلسطيني في الأيام الماضية، مسألة احتجاج الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين على وقف المخصصات التي تدفع لهما من منظمة التحرير الفلسطينية. وحتى الآن، لا يبدو أنّ هناك تعقيبا رسميا فلسطينيا، من قيادة المنظمة، حول ما تعلنه الجبهتان. لكن الأهم أنّ القضية تعكس أزمة الفصيلين الهيكلية والجماهيرية، كما تعكس أزمة العمل الفلسطيني ككل؛ ينسحب هذا على حركة "فتح"، وحتى الفصائل غير المنضوية في منظمة التحرير، وتحديداً حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي".
كل ما يساق من أنباء وتفاصيل عن أسباب هذه الأزمة (مع الجبهتين)، يعكس هشاشة بالغة للعمل الفلسطيني، ولهذه الفصائل.
تكاد هبّة تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تكون قد انتهت من دون أن يتمكن أي فصيل من أن يكون في صُلبها قيادةً، وتخطيطاً، وتطويراً، وتفكيراً؛ ومن دون محاولة من القيادة الفلسطينية لإدخالها في سياساتها، أو تطوير استراتيجية توظفها.
تكشف قضية التمويل كيف تستخدم الموارد من قبل القيادة لتشكيل الآراء والمواقف السياسية؛ وثانياً، محدودية الاكتراث بهذه الفصائل (التي تتركز أهميتها بدورها وتواجدها التاريخي سابقاً)، أو على الأقل من حيث أهمية اصطفافها داخل منظمة التحرير خصوصاً، أن هذا الاصطفاف كان يخدم فكرة وجود ائتلاف بحاجة فقط لاستكمال في وجه الفصائل (الجديدة نسبياً) التي لم تنتمِ للمنظمة بعد.
من الجهة المقابلة، يوضح الأمر كيف أن الجبهتين فقدتا القدرة على الاعتماد على ذاتهما، أو على دعم شعبي، أو موارد ذاتية، أو الاعتماد على دعم عربي أو مناصر، كما كان الأمر مثلا زمن جمال عبدالناصر، والحرب الباردة.
يختلط تمويل المنظمة مع تمويل السلطة الفلسطينية، وجزء كبير من ذلك مختلط بالتمويل الدولي المرتبط بالضرورة بالمواقف السياسية للسلطة. وهذا أمر تعلمُه الجبهتان، وتعلمُه حركة "حماس" التي تصر أن يتم تمويل موظفين عينتهم، ودُفعت رواتبهم من قبل السلطة، رغم خريطة تمويلها بملابساتها المعروفة.
عانت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" مؤخرا بسبب تراجع الدعم الإيراني. ويرتبط جزء كبير من الأزمة مع حركة "فتح"، أو بكلمات أدق مع رئاسة السلطة الفلسطينية، الآن بتمويل ورواتب الذين عينتهم "حماس" في غزة.
تعكس هذه الأزمات، أولاً، أنّ حسابات الحاجات اليومية، والتشغيلية، للبيروقراطية الفصائلية وما يرتبط بها، أصبحت عاملا حاسما في التفكير لدى قيادات هذه القوى، تورطت فيه، وأصبح له أهمية أكثر بكثير من الحسابات السياسية، ناهيك عن الأفكار الثورية والنضالية، التي يبدو أنها صارت من الماضي. وإذ يؤكد الفصيلان أنّ وقف الدعم مرتبط بمواقفهما السياسية المعارضة، ويسوقان عدة ملفات خلافية، بدءا من رفض سياسات للرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومن ذلك عدم تنفيذ قرار وقف التنسيق الأمني، إلا أنّ الأكيد أن التعبير عن الاستياء من وقف التمويل تم بشكل أقوى وأشد، أو على الأقل أكثر وضوحاً، من الاستياء بسبب تلك المواقف السياسية.
وتعكس هذه الأزمات، الفشل في صياغة خريطة تحالفات أمنية، قادرة على تأمين الدعم بعيداً عن الإملاءات والاشتراطات السياسية. وإذ يتحمل الطرف العربي دوراً في وصول الأمر إلى الاعتماد على التمويل الغربي الأميركي والأوروبي، وإلى إيران، فإنّ السؤال يبقى: كيف وصل الأمر إلى هنا؟
قد تصطف جماهير كثيرة خلف أي فصيل "معارض" لأسباب تتعلق بموقفه السياسي والوطني، ولو كان الأمر خلافاً في الوجهات، ولكن ليس لقضايا تمويلية.
فلنتخيل لو أنّ الجبهتين غاضبتين لأنّ قرار المجلس المركزي لمنظمة التحرير، الذي اتخذه منذ أكثر من عام ويخص التنسيق الأمني، لم يُطبق، بل وبالعكس هناك ما يبدو أنّه تطوير لهذا التنسيق، لاستطاعتا بالتأكيد حشد الكثير من الدعم والتأييد، هذا من دون تجاهل إعلانهما أنّ هذا من ضمن ملفات الخلاف التي أوصلت إلى الأزمة الراهنة.
ما يحدث يعطي انطباعاً لأجيال جديدة بأنّ المنظومة القديمة جميعها، موجودة على جهاز تنفس صناعي، لا أمل في بث الحياة فيها، وأنّ التفكير بآليات وأطر عمل جديدة، بالمراكمة على الإرث النضالي الفلسطيني، الذي أنجزته فصائل الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير هي الأجدى، ولكن من دون اعتماد على هذه الفصائل، أو على الأقل من دون توقع شيء منها في وضعها الحالي.
عن الغد الاردنية