نزل آلاف الفلسطينيين مجددا إلى الشارع، يوم الثلاثاء الماضي، احتجاجاً على قضية غير سياسية، بل مطلبية حياتية اقتصادية. وفي الوقت الذي لا يمكن إلا مناصرة المطلب الشعبي وتفهمه، فإنّ التفهم أمر مختلف عن الفهم. إذ لنفهم ما يحصل، يُفترض البحث عن الأسباب العميقة والكامنة. وعملياً، فإنّ متطلبات تجاوز الفشل في تحقيق أهداف وطنية على صعيد مواجهة الاحتلال، لا تختلف كثيراً عن متطلبات وقف حالات الاحتجاجات المطلبية.
بعد العام 1945 وصعود الولايات المتحدة الأميركية قطباً دولياً في مواجهة الاتحاد السوفيتي، بدأ البحث عن استراتيجية للمواجهة. وبقدر ما كان الردع النووي والعسكري مهماً وأساسياً، بقدر ما كان هناك حديث عن أمر آخر، هو كيف تنعكس صورتنا عالمياً (الصورة الأميركية).
بُنيت سياسة الاحتواء ضد الشيوعية، كما عبّر عنها جورج كينان؛ مسؤول التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية، العام 1947، على أساسين: ضرورة عدم الهجوم الصاخب والسريع على السوفييت إعلاميا، لئلا يتم استفزازهم؛ والأساس الثاني، دحض الفرضية الأساسية للاشتراكية والسوفييت بشأن توقع انهيار الرأسمالية، ودخول الاقتصاد الغربي في أزمة. وهذا يكون من خلال الحرص على بقاء الولايات المتحدة في صورة إيجابية. وقال كينان إنّه يجب أن تحرص الولايات المتحدة على أفضل تقاليدها، وأن تثبت نفسها بجدارة، وبأنها قادرة أن تبقى أمّة عظيمة. وبهذه الطريقة لن يجد الكرملين طريقة للشكوى، أو تحدي المجتمع الأميركي. وكذلك أن يدرك الأميركيون أنّ تماسكهم هو أمر أساسي، وأنّ أمنهم قائم قيامهم بمهامهم السياسية والأخلاقية كقيادة لديها مهام تاريخية.
وهكذا كان الاهتمام بالبيت الداخلي بوابة وسند المواجهة الخارجية.
فشل الأميركيون في الخمسينيات والستينيات بشكل ذريع بتحقيق الوحدة وتقديم صورة إيجابية، واهتزت الولايات المتحدة باغتيالات أبرزها اغتيال الرئيس جون كينيدي، العام 1963، وأعمال احتجاج عنيفة في الشوارع، وغير ذلك. والواقع أنّه رغم كل السخاء الأميركي حينها في تقديم مساعدات للعالم، والإنفاق على التسلح، حقق السوفييت تقدما كبيرا، وتوسع انتشار الشيوعية كثيراً. ومن هناك، عندما جاء ريتشارد نيكسون للحكم، العام 1969، كانت أولويته ترتيب الوضع الداخلي في الولايات المتحدة، واستعادة التلاحم للكيان السياسي الأميركي والتناغم للسياسة الخارجية الأميركية. وفي سبيل ذلك، انفتح على السوفييت، وتعاون مع الصين، وأنهى الخلافات معهم. وعندما جاء رونالد ريغان رئيساً، العام 1981، ركز على وصف الولايات المتحدة بأنها "المدينة المتألقة"، ووصف الاتحاد السوفيتي بأنّه "إمبراطورية الشر".
فلسطينياً، كان أهم إنجاز تحاجج به السلطة الفلسطينية، منذ العام 2004، أي في عهد الرئيس محمود عباس، هو بناء مؤسسات الدولة، والافتخار بأنّ العالم ومؤسسات مثل البنك الدولي، تقر بجاهزية الفلسطينيين للدولة. والآن، مع ارتباك مثل قانون الضمان، وقبله المعلمين، وغيرها من القضايا، فإنّ الافتخار بموضوع المؤسسات صار موضع مراجعة.
أحاجج أن الاحتجاجات الكبيرة التي قام بها المثقفون والسياسيون المستقلون والفصائل على قرار الذهاب لطلب إنهاء الاحتلال نهاية العام 2014، ثم على عقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني نهاية العام 2015، ثم إضرابات المعلمين، والآن احتجاجات الضمان الاجتماعي، لا تتعلق بمضامين القرارات والخطوات والقوانين، بقدر ما تعكس حالة الشعور بالتهميش، التي تشعر بها مختلف القطاعات الاجتماعية، بل إنّ هبة تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أيضا في السياق ذاته؛ فشعور الشبان بأن لا أحد يلتفت إليهم جعلهم يأخذون زمام المبادرة.
إنّ عدم إشراك الشرائح الفلسطينية الشعبية، من قوى سياسية واجتماعية، ومن مختصين وشباب، في التخطيط وصنع القرار لكل الخطوات؛ بدءا من قرار إنهاء الاحتلال، إلى قانون الضمان الاجتماعي، يؤدي إلى الكثير من الخلل والغضب، كما يؤدي إلى سياسات مرتبكة، يتم التراجع عنها بعد الاحتجاجات؛ من نوع تعديل قرار الأمم المتحدة المذكور. والأهم من كل ذلك أنه لا يتم حشد كل الطاقات الوطنية لتفكير أفضل، ولطاقة أكبر، موحدة في تحقيق الأهداف والسياسات.
إنّ شعبا موحدا لديه آلية صنع قرار جماعي أو توافقي (ومن ذلك البرلمانات)، مضافاً إليه خطط عمل تبدأ من المقاومة وتصل حدّ التنمية، من شأنها جعل العالم يأخذ هذا الشعب ومطالبه وقراراته وتحذيراته ووعوده بمصداقية، وأن يوجد طاقة شعبية لفعل أكبر.
عن الغد الاردنية