من البديهيّ أن يُصبحُ الفحمُ سكرًا عندما تكونَ اليدُ التي تحملهُ من القصب، لم يرسمني أحدٌ قبل هذه المرّة، لذا فلن أتركَ اللحظة تمرّ هكذا، سأقولُ لفتاةِ السكّر تلك شكرًا بحجمِ الملح السعيد الذي سكنَ دمعة قفزت الى خدي من فرطِ جمال الموهبة.
لستُ شخصيّةً اعتبارية، ولا بطلاً قوميّا خاض حروبًا، ولم أستشهد في حياتي ولو مرّة واحدة، إنسانٌ عاديّ وفي بعضِ الأحيان أقلل من شأن نفسي كلما زاد التصفيق وأنا على إحدى منصات الثقافة، أقرأُ كثيرًا عن سسيولوجيا الجماهير والمثقفين والساسة والعسكر، أمارس الإعلام وأكتبُ كأنه شيء أقوم بهِ وحسب، لذلك أركزُ كثيرًا على المونولوج داخلي لكي لا أقعَ في الأفخاخ التي أغتابُ بها غيري من المثقفين عندما أشعرُ بالغيرةِ منهم، لذا فكان وقعُ الهدية شيئًا مختلفًا.
يُقال في علوم (الإتيكيت) بأنه من المعيب أن تقدّم لضيفِ عزيز ذو شأنٍ لديكَ شرابًا بارداً والسبب أن الشراب البارد سهل التقديم، لذلك وكنوعٍ من التوجيب يفضّل أن تعدّ له شرابًا ساخناً ويخصَ منها القهوة لأنها المشروب الذي يأخذُ من المضيفِ وقتًا أطول، وبذلك فأنتَ تقدّر ضيفك، فما الذي سأشعرُ بهِ عندما تُقدّم لي هديّةٌ استغرق مهديها بتجهيزها لي خصيصًا حوالي العشرون ساعة على مدار عشرة أيام، وزيادةً عليها أن تكونَ لوحةً تحملُ وجهي !
إسلام أبوعيد فتاة فلسطينية من قرية بدّو قضاء رام الله تبلغُ من العمر 22 عامًا، بدأت بالرسم منذ نعومةِ أظافرها وفازت بالعديد من المسابقات في مراحل دراستها الأساسية والثانوية، أكملت دراستها الجامعية وتخرجت من الكلية العصرية برام الله بتخصص (الجرافيك) الذي تقول بأنه تلائم مع حبّها للفنون.
تعرفتُ عليها "مصادفةً" من صفحةِ أحد الرسامين الفلسطينين على موقع (الفيس بوك) عندما صدفتُ شجار شخصين على منشور ينتقد سلوك النظام، الأول يقدح والآخر يدافع، وكان من الواضح أن الذي حركَ أصابعهما هو المشاعر، تقمصتُ الباحث بكل موضوعية وتناسيت أيّ شخصٍ آخر حتى خلعتُ جميع الميولات، ومددتُ يدي إلى لوحةِ المفاتيح وأفصحتُ بشجاعة عن الخطأين وهو محاولة الطرف الثاني بإقناعه بعدم حقّه بأن ينتقد أو أن يدلي برأيه وأنصفتُ النظام بنقدي الذي يعبّر عن وجهة نظري الشخصية، لم أنتمِ لأحدٍ منهم، فأنا لا أنتمي سوى للحقائق والمنطق في طرح البدائل إن كان هناك بديل لطروحات حلول الآخرين، هذا التعليق العزيز على قلبي استفزّ تلك الفتاة التي كانت تراقبُ أيضًا بصمت لترسلَ لي رسالةً جميلة تتضمن اقتناعها بما كتبت، رددت عليها بلباقة مفرطة وحذرة بعد أن انتشيت باعجابها بما كتبت، ونظرًا لفضولي الشديد الذي لا يبرحني منذ أن كنتُ أمشي على أربعة أطراف قبل خمسةٍ وعشرينَ عامًا بحثتُ لأكتشفَ بأنها رسامة أيضًا، وكسلوكٍ لا أعلمُ من أين أتى والذي سأرميه على شماعة المجتمع، لم أرسل لها طلبًا للصداقة كما لم تفعل هي أيضَا، لينتهي الموضوع في حينه (كما ظننت).
قبلَ عدةِ أشهر حصلتُ على مكافأة ماديّة في عملي، وكانت الأولى ورغمَ حاجتي لكلّ قرشٍ منها إلى أنني آثرتُ أن يكونَ لها وقعٌ خاص فاشتريتُ بها آلة العود معولاً عليها بأن تحقق إحدى أحلامِ طفولتي بأن أغني وأنا أعزف (يا بحرية .. هيلا هيلا )، وبعدَ مأساةٍ وانتكاسات تعرضتُ لها بعد أن حاولتُ أن أتعلّم الدوزان والعزفَ وحدي استسلمتُ لعنادِ الآلة الوترية وبحثتُ عن أهل الاختصاص لأجدَ مصادفةً مقطعًا على (اليوتيوب) يتحدث عن عقد (جمعية شهرزاد للثقافة والفنون) دورات للتعليم العزف، الحماسة والاصرار قاداني إلى هناك على الفور، دخلتُ الجمعية حاملاً طفلي الأخرس صاحب الأوتار الملتوية، لتكونَ الفنانة إسلام أبو عيد هُناك، بعد تعارف الجميع، لمعَ اسمها في رأسي كشرارة كما لمعَ اسمي بابتسامتها أيضًا.
بدأ كلانا صداقته في الآخر، هي تقرأ نصوصي وأنا أقرأ تفاصيلَ لوحاتها، ومن أجمل ما سأقتبسُ من شخصيتها الفنيّة المميزة .. لمن يعلم من هو الفنان :
" شاركتُ بعدةِ معارض، كنتُ أكتبُ على لوحاتي بأنها مباعة خوفًا من أن يسرقَ الأثرياء أطفالي بنقودهم "
" أسرحُ كثيرًا، لتلك الدرجة التي أسرفُ فيهِا نصف خزّان الماء عندما أقوم بجلي صحنين في مطبخ بيتنا، أُصاب بشلل الادراك بالوقت عندما أدخل من بوابة اللاوعي والخيال، تكون تلك علامات مخاض اللوحة "
أقولُ لتلك الفتاة .. تهدينني بريشتكِ فأتمنى أن تقبلي هديّة قلمي ..