ليس من قبيل المصادفة أن تسرى أنباء الاتفاق المصرى / السعودى لترسيم الحدود البحرية من هنا، ليسارع نتنياهو بأركان حكومته جالسا بانتشاء إمبراطورى فوق هضبة الجولان السورى المحتلة، محاولا ابتلاع أرض عربية جديدة وبقعة استراتيجية جديدة، قائلا للعالم الذى يتكالب علينا حاليا: إن إسرائيل هى الحل.
قد نترك للعالم كما للأيام القريبة والبعيدة الإجابة على دعوة نتنياهو، وقد نراها فى خطوات أو تحركات مقبلة. إنما بالفعل بعض عرب من بقايا العرب وبعض دول مسلمة وإقليمية صارت تتعامل مع إسرائيل بلا دين أو عقيدة إلا المصلحة، كمرتكز لا غنى عنه أو يستحيل تفاديه، والأسباب معلنة مشهرة والأوضاع كاشفة فاضحة. إنما التحركات والأبعاد والأعماق غامضة غائصة.
إنما تبقى إسرائيل وتظل المشكلة الرئيسية، لا الحل أبدا. ليس للعرب أو جوارهم الإقليمى فحسب. بل لمصر بالأخص، فهى زرعت لمصر. وخصيصا لتعطيل مصر. واحتلت فلسطين لقطع الطريق على مصر.
وهذه حقيقة استراتيجية لا فكاك منها.
ولو سلكت السياسة والمعاملات طرقا ومسالك، قد تؤدى الغرض، وقد لا تكون مجدية. وقد ترتد عكسا. وفى الاتجاه المضاد.
خلاصته، الاتفاق المصرى- السعودى بتوافق وعلم أمريكا وإسرائيل متغير استراتيجى له ما بعده، الذى لا يشبه أو يقارن بما قبله. وربما نرى بعده ما نتوقعه وغير ما نتوقعه. ولم يرد فى خيالنا.
وقد رأينا على سبيل الافتتاح وليس البداية وليس آخراً قفزة إسرائيل الراقصة فى الجولان.
أيا كان الآتى، وهو عظيم جلل لا شك إنما هنا أسئلة أساسية:
- ماذا عن ترسيم الحدود الاستراتيجية وهل اقترنت بالترسيم البحرى. أم تركت حرة تجرى بتدافع الأحداث والمتغير الذى قد تعقبه متغيرات؟
هل اقتصر الترسيم الاستراتيجى الجديد على البحر الأحمر ببابه ومضايقه وعرضه وطوله وأوله وآخره. أم يشمل فيما يشمل الوضع الاستراتيجى العام. وما يرتبط به من قضايا ومصادر تهديد وعمليات تأمين؟
ثم كيف يعمل الأمن القومى المصرى وما هى حدوده ووسائله فى ضوء هذا الاتفاق والأوضاع الجديدة. وما درجة توافق الأطراف الأخرى معه أو قبولها له؟
هل كانت خطوة نتنياهو فى الجولان متوقعة، ولن نقول معلومة؟ هل جرى حسبانها؟ وماهو العمل؟
بتنا نسمع عن مصطلح «الأمن القومى الجديد» وأنه يتم إلقاء المحاضرات فيه على كوادر الدولة. ما هو؟ ما الذى تغير؟ ماذا يشمل؟ ماذا يستهدف ويحقق؟
لا مراء، وأبدا لا شك.. إننا فى عالم جديد. ومنطقة جديدة. وواقع محلى جديد. وكل شىء جديد. وأنه قد يكون لنا بأكثر مما يكون علينا. أو العكس. أو أننا وأيا ما كان الحال، لنا صرفة وتصرف.
إنما كيف نتربى ونتعلم على مفهوم الأمن القومى، الذى صار قديما. بينما تدرس كوادر الدولة نظيره الجديد. مثلما تربينا على أن تيران وصنافير أرض مصرية فنجدها الآن سعودية. ما هذا الانفصام، الذى قد يؤدى إلى انفصال وتقسيم العقيدة
الوطنية؟
- يرتبط بهذا السؤال عن أبعاد التحالف المصرى السعودى. هل هو ثنائى فقط أم يمتد نظره لبناء كتلة عربية من الدول التى مازالت تحظى بالتماسك والقدرة النسبية.
وهى مسألة صارت ضرورة واجبة للحفاظ على «بقايا العرب»؟
أم أنه تحالف ثنائى يشكل مرتكزا لارتباطات أخرى إقليمية دولية. وما هى أطرافه، وأهدافه، وماذا يضمن، أو يحقق؟
- ما هو موقع قضية الدولة الفلسطينية من هذه المتغيرات الجذرية الجديدة.
لقد ظل البحر الأحمر وخليج العقبة بالأخص، ركنا استرتيجيا فى الصراع العربى/ الإسرائيلى والحروب والسلام المنعقد بين مصر وإسرائيل، فكيف لا يكون التغير، ولن نقول التوافق الاستراتيجى الحادث بشأنه الآن، مرتبطا بحل قضية الدولة الفلسطينية، تحقيقا لمتطلبات الأمن القومى المصرى ومن ثم العربى، أولا وأخيرا؟
كيف لا يكون مقابل «السلام الجديد» مع إسرائيل فى خليج العقبة والبحر الأحمر بما يضمن لها ما يضمن ويحقق لها ما يحقق. كيف لا يكون سلاما فى فلسطين. ولو حتى إطارا لدولة فلسطينية مستقلة؟
وماذا يعنى حديث السلطة الفلسطينية أخيرا من موسكو عن تغير مسار المفاوضات من ثنائية إلى متعددة الأطراف؟
لا نظن أن صورة المقبل غائمة، أو لا تدركها القيادة المصرية الحاليّة. إنما نظن أن هناك برنامجا خفيا يجرى تحقيقه فى المنطقة ومعنا. ويجرى إدارته والتوافق حوله وإذاعته بأساليب «الغموض والصدمة»، وسؤالنا هو عن البرنامج الخفى المطلوب سريانه علينا. والذى ربما تتجمع معالمه التنفيذية أو ملامح منه لدى القيادة من توالى وتكاثر الزيارات والاتفاقات والتحركات والتصريحات والمباحثات المصرية والإقليمية والدولية؟
وماذا نفعل معه كجماعة وطنية واحدة وليس كقيادة دون الشعب. أو كدولة دون الشعب. أو شعبا بلا دولة؟
لا يصلح أبدا أن نقول فقط إننا نواجه خطرا والمطلوب هو الثقة فقط. فنجد انقساما وطنيا، ومناخا فوضويا لا حدود له وعواقبه مريرة.
لسنا فى حاجة إلى انقسام ولا إقصاء. إنما إلى تنظيم الرؤى والأفكار والتوجهات فى سبيكة وطنية وعقل جمعى وطنى واحد. يدرك المخاطر والتهديدات والتحديات والعراقيل والعوائق، ويحدد سبل المواجهة والتعامل وسلوك أى من الطرق، وكيف نمر ونفوت بمصر، من كل هذه الانقلابات والتكالبات الدولية والإقليمية والحفر الداخلية.
قد يحقق هذا تنظيم مؤتمر علمى سنوى لتقويم وضع مصر الاستراتيجى والقضايا المطروحة عليها وسبل التعامل معها. مؤتمر يحدد بوضوح قضايا الأمن القومى المصرى بأبعاده الشاملة المتكاملة.
مؤتمر تقوم على إعداده ورعايته هيئة اجتماعية إدارية فقط حسب مهمتها. مؤتمر يصيغه العقل الجمعى وينصاع له عقلا وحكمة ووجدانا وإدراكا، فيمضى به نحو تحقيق غاياته الوطنية المأمولة.
هنا مسألتان نذكرهما على سبيل المبدأ والاحتياط أيضا:
١ - مثل هذا المؤتمر المقترح ليس قيدا سياسيا على أى أحد ولا أى سلطة إنما شريك وطنى اجتماعى وظيفته عقل يفكر وآليته تحديد القضايا المطروحة ومناقشتها وبحثها. من خلال الأوراق والرؤى والأفكار العلمية والخروج بالتقديرات العلمية المحددة بمشاركة أهل الاختصاص والرؤية والعلم والتجربة من كل المجالات والمشارب ومختلف التخصصات.
٢- مثل هذا المؤتمر السنوى، ليس رديفا إداريا بيروقراطيا لأجهزة الدولة كما هى أمثلة نحن فى غنى عن ذكرها وعن مكوناتها من ممثلى أو مجندى الجماعات والفرق الأيديولوجية والسياسية الصغيرة وضباط الاتصال مع المجتمع الدولى والإقليمى.. إنما مؤسسة مجتمعية علمية هدفها بناء رؤى العقل الوطنى تجاه قضايا أمنه ومصيره.
ولنا عودة بإذن الله.
عن المصري اليوم