حُوكم رجل، أمام محاكم التفتيش، في القرون الوسطى، بتهمة الهرطقة لأنه صنع معطفاً من مادة لا تسمح بنفاذ الماء، وبرّر ما فعل بالقول: إنه أراد حماية نفسه من المطر. فرد القاضي: "ألا تعلم أن الله يرسل المطر ليبللنا". معنى هذا الكلام أن الرجل تدخّل في الإرادة الإلهية، وقد انتهى به الأمر، على الأرجح، مُعلقاً على خشبة، فوق كومة من القش والحطب. لكل تفصيل في هذه الحكاية القصيرة دلالة عابرة للقرون، وفي كل تفصيل ما يختزل جانباً من تاريخ الإنسان على الأرض. فصناعة المادة الواقية تعني توظيف العقل، والمنطق التجريبي، في ابتكار شيء ما غير مألوف، ومحاكمته تعني حماية المألوف، والمعرفة المُكرّسة، من التهديد، ورد القاضي (السلطة المُهيمنة) يعني احتكار التأويل باسم المُقدّس، ونيابة عنه، وتوظيفه كما يشاء، وبما يشاء، أما كومة القش والحطب فتعني تطهير الجسد بالنار. الغائب/الحاضر في هذا، كله، هو الشيطان، الذي بلورت كل ثقافات الكون، تقنيات واستراتيجيات خاصة لحرمانه من إمكانية التسلل إلى "القلوب والعقول"، وفي حال تمكّن من ذلك، لطرده منها. كانت لدى موظفي محاكم التفتيش، مثلاً، "كتيبات ونشرات تشغيل"، من نوع الكتيبات والنشرات الإرشادية، المصاحبة للأجهزة الكهربائية التي نشتريها، هذه الأيام، ونستعين بها لتركيب وتشغيل الأجهزة، وإصلاح ما قد يطرأ عليها من أعطال. استندت كتيبات ونشرات مفتشي المحاكم الإرشادية إلى المنطق نفسه، فرصدت كل الحيل الجسدية واللغوية المُحتملة، التي يمكن أن يعتمدها الشيطان، لتمويه حضوره في "قلب وعقل" شخص ما (خاصة الساحرات، ولهن تاريخ حافل) وطرحت حلولاً عملية لكيفية ملاحقته وطرده. تَمثّل بعض الحلول في قراءة نصوص، وصلوات، كنسية معيّنة، والبعض الآخر في استخدام كمّاشات، وأسياخ حديد، ودواليب، وأصفاد، يمكن أن نرى الكثير منها، هذه الأيام، في متاحف أوروبية مختلفة. المهم، أن النار، بعد التعذيب، كانت العلاج الأخير، لتحرير الروح من جسد فسد. الزار الشعبي طقس تمثيلي أقدم، والضرب (التعذيب) شائع في مجتمعات عربية كثيرة في طقوس طرد الجن من أجساد الممسوسين، وحالات الموت ليست نادرة. وقد اكتملت في ممارسات كهذه كل قواعد الدراما المسرحية، التي يتعلمها الطلاّب في معاهد التمثيل والفنون، هذه الأيام. ولنلاحظ، هنا، أمرين: أن "الممارسات" طقوس، بما تنطوي عليه من أزياء، وسيناريوهات مُضمرة، وأدوار، وتمثيل، وحبكة، وإخراج، وأن تاريخها أبعد بكثير من محاكم التفتيش، وأبعد بكثير من ظهور المجتمعات الزراعية قبل عشرة آلاف عام. وبقدر ما يتعلّق الأمر بمَنْ أراد، في غزة، "طرد الشيطان من القلوب والعقول" فكل ما تقدّم يُمهّد لوضعه هو، والوهابية التي أنجبته، في سياق تاريخ أطول، وأبعد. من ناحية، للقول بالتعبير الفرنسي الشائع: (Déjà vu)، أي رأينا هذا من قبل. وما رأيناه يصلح مدخلاً، من ناحية أخرى، للقول: إن ذاكرة بني البشر تزخر برصيد هائل من العلوم، والمناهج، والأدوات، والخبرات، الكفيلة بتحليل وتفسير معنى ومبنى طرد ومطاردة الشيطان، ووضع هذا، كله، في السياق العام لتاريخ الإنسان على الأرض. في التفكير، بطريقة كهذه، ما ينفي الفرادة والتفرّد عن الظاهرة الوهابية (بصرف النظر عن خلافاتها، واختلاف راياتها)، ومختلف تجلياتها المحلية في العالم العربي أولاً، وما يمكّن العاملين في الحقل الثقافي العربي، من الاستفادة من رصيد هائل، من المعرفة، راكمته البشرية، على مر القرون، لبلورة آليات النقد والنقض ثانياً، وما يُسهم في إغناء المعرفة، وتعددية مصادرها ثالثاً. وبهذا المعنى، فقط، يكون العرب جزءاً من العالم، بالمعنى الثقافي، والإنساني، والسياسي، لا بخرافة الأصالة والمعاصرة. وبناء عليه، فلنفكر في مداخل مختلفة: يمكن الكلام عن طرد ومطاردة الشيطان، مثلاً، في سياق مركزية فكرة الأضحية البشرية، في تاريخ الإنسان، وتحوّلاتها الرمزية على مر القرون (من التطبيق الحرفي، إلى التعويض الرمزي)، وحتى عودتها، في أقدم، وأكثر صورها بدائية، على يد الدواعش، الذين لم يرأفوا حتى بأجساد التماثيل الحجرية (في زمن الفتوحات كسّر الفاتحون أنوفها، وأعضاءها التناسلية البارزة). وفي السياق نفسه، يصعب التفكير في عودة كهذه خارج مركزية الاستيهامات المثلية الذكورية، واستجداء "حب الأب"، وكراهية النساء. وبين المركزيتين أكثر من صلة ونسب. تستدعي الأولى التحليل البديع لرينيه جيرار حول العلاقة بين الديني والعنف في كل ثقافات الكون، والثانية، في النسق الثقافي العربي والإسلامي، بطبعته الوهابية، لا قتل الأب، للاستئثار بنسائه، كما في التحليل الفرويدي، بل الاسترضاء، بالاستسلام المُطلق، وتبديد كل حضور للأنا، تعبيراً عن "الحب". ولعل في هذا ما يتعارض، نوعاً ما، مع ما ذهب إليه طيّب الذكر جورج طرابيشي (أحد أنبغ النقّاد العرب)، الذي رأى في نكوص المثقفين العرب إلى "التراث" عودة إلى "رحم الأم" احتماءً به من الحضارة الأوروبية الغازية، خوفاً من الإخصاء. فالمسألة، هنا، ليست رحم الأم، بل العودة إلى الأب، بكل ما يستدعيه ميراث الأب من استيهامات ذكورية، وتحريض على "الحب". ولكن، كيف يتجلى هذا كله في فيديو غزة؟ لا فائدة، هنا، من الكلام عن أن الأطفال في سن لم تسمح لهم، بعد، بارتكاب المعاصي. فالاستماع إلى الموسيقى، والغناء، وقضاء بعض الوقت على الإنترنت، أشياء تقوم مقام المادة الواقية من المطر في القرون الوسطى. بمعنى أن فكرة الشيطان تمتاز بمرونة عالية، ويمكن تأويلها بكل ما يخطر، ولا يخطر، على البال. مرّة أخرى، يفرض التمهيد منطقه، ويُحرّض على الاستطراد، إلى حد يبرر القول: إننا لم ننته، بعد، من تحليل هذا الموضوع، فإلى لقاء جديد.