فيما يغطي الرماد جمرات الصراع العربي الصهيوني المتقدة منذ قرن؛ تشتعل في هذه الآونة في البلاد العربية أربع حروب داخلية، فضلا عن عشرات الحروب السابقة، التي أكلت الأخضر واليابس، وأتت على مقدرات الأمة، وجعلت مستقبلها في مهب الريح. وكما هزت الحروب وعي الشعوب الأوروبية سابقا؛ آن لنا أن ندرك معنى الحرب الآن، وتبعاتها. الحرب، كانت أول شيء اخترعه الإنسان، وظلت هاجسه وكابوسه.. وعلى امتداد تاريخها الدموي، خاضت البشرية ما لا حصر له من الحروب والمعارك، وجرّبت كل أنواع الأسلحة، ولكنها حتى هذه اللحظة لم تجرب السلام.. السلام الذي يعمّ ربوع الأرض. وكما ارتبطت بالقبيلة في المراحل المبكرة من التاريخ؛ ارتبطت الحرب بالنظام الرأسمالي في المراحل التالية، وقد شكلت نقطة ضعفه الكبرى؛ وحتى حينما تطور ظل عاجزا عن منعها؛ لأن الحرب من صميم بنائه وتركيبته. فمثلا، تنفق الولايات المتحدة على موازنتها العسكرية ما يقرب من مليار ونصف المليار دولار يوميا، أي ما يعادل موازنة دولة صغيرة لسنة كاملة. تاريخيا، أهلكت الحروب ملايين البشر، وما زالت تقتل كل دقيقة مئات الأرواح البريئة، وتقصف أحلام الناس، وتهدم بيوتهم، وترسم لهم صورة قاتمة عن المستقبل. يعتقد أنصار نظرية الحرب أنها الفصل المأساوي من التاريخ الذي لا بد منه، والذي ينتهي حتما بانتصار المظلومين، وبسحق قوى الشر، ويتعاملون معها كما لو أنها درس في كتب التاريخ المقررة في المناهج المدرسية، والتي تتحدث بأكاديمية باردة عن تجارب الشعوب في التحرر من الاستعمار. الحزبيون يتعاملون معها كإحصائيات وأرقام عن حجم الخسائر في صفوف العدو، لتثبت للخصوم صوابية خطهم السياسي، وصحة شعاراتهم، أو بذِكر التضحيات الغالية التي قدمها ذلك الفصيل لكسب المزيد من الأتباع والمؤيدين؛ فتتحول الحرب بذلك إلى قصيدة ملتهبة، أو رواية مشوقة. وآخرون يرونها بمنظار رومانسي؛ فلا يرون منها سوى أمهات يبكين بشاعرية أنيقة أبناءهن الذين ماتوا في الحرب، وبالطبع سيقابل هذه الصورة أناس سيصدقون أن تلك الأمهات فرحات باستشهاد أبنائهن الذين أُنجبوا خصيصا للمعركة، وفدوى لعيون الوطن والقائد. الحقيقة، أن الحرب ليست كذلك أبداً؛ الحرب هي أن تصحو مفزوعا في منتصف الليل البهيم على صوت القصف، وهو يرجُّ النوافذ، وأن تمضي المساء تتفقد أطفالك، وكل طموحك ورجائك أن يطلع عليكم النهار دون أن تنقص العائلة أحد أفرادها، وفي الصباح لا تجد حمّاما لتجيب فيه نداء الطبيعة. الحرب هي أن يكون كل تفكيرك منصبّا في البحث عن ملجأ، ثم كيف تهاجر، وإلى أين، وأي بحرٍ سيبتلعك، وأي صحراء ستقضي فيها ظمأً. الحرب، هي أن يصبح بيتك متراسا للقناصة، والمدرسة مركزا لإيواء الهاربين من الحمم، والمستشفى ثلاجةً للموتى، والحيُّ بأكمله أكواما من الردم، وتصبح مدينتك مساكن للأشباح، ومرتعا للغرباء وشذاذ الآفاق.. في الحرب تتحول حياة الناس إلى حكايات حزينة، وقلوب مفجوعة، وأمهات مكلومات، وأولاد يهيمون وينامون في الشوارع جوعى.. الحرب هي «السوق» التي ينتظرها كثيرون: عصابات المخدرات والاتجار بالبشر، والتهريب، وتجنيد الأطفال، وتجار السلاح، وأمراء الحرب، والمتسلقون، والانتهازيون، وبعض الإعلاميين المهرجين، والمحرضين، وزعماء الطوائف.. حيث يتحول الناس في نظرهم إلى بضائع وأرقام.. في الحرب لا يجد الأطفال ساحة للعب، ولا تجد الفتيات مرآة يمشطن جدائلهن أمامها، ولا تجد الأم سقفا تمارس تحته أمومتها. في الحرب لا يعود الآباء لبيوتهم إلا جثثا محروقة، أو أرواحا ممزقة، ومشوهة.. في الحرب تشح الموارد، ويلوح شبح المجاعة، والعطش، ويستشري الخوف، وتتقلص الإمدادات الغذائية، وتنقطع الكهرباء، وتتضاعف الأسعار، وتختفي الأدوية وكذلك الصيدليات، وحتى الأطباء.. ويضطر المواطن للوقوف ساعتين في الطابور ليملأ قنينة ماء، وثلاث ساعات للحصول على ربطة خبز.. ثم عليه أن يكون محظوظا ليصل إلى بيته حياً.. الحرب تطلق أسوأ ما في النفس البشرية، وتحوّل الناس إلى وحوش، تسيّرها نزواتها البدائية ومخاوفها وأطماعها دون أي اعتبار للقيم.. في الحرب ينزع كل طرف عن الطرف الآخر إنسانيته، ويغدو في نظره مجرد هدف للتصويب. في الحرب لا يعرف أحد الحب، وينسى الناس الرحمة؛ لأنها توطن الكراهية، وتنشر الأحقاد مثل عدوى الجذام.. أصحاب الأوهام المقدسة، يعتقدون في كل مرة أنهم سيخوضون حربهم التاريخية، التي ستكون آخر الحروب، والتي ستحسم صراع الخير والشر، لكنهم لا يعلمون أن حربهم المزعومة ستولد مئات الحروب الجديدة.. تبدأ الحرب بشعارات براقة، ثم ينسى المقاتلون السبب الذي خرجوا من أجله، ويصبح كل همهم البقاء، أو القتل.. في كل حرب يؤمن كل فريق أنه في الجانب الصحيح، وأنه يدافع عن الحق.. وفي الحرب يتقاتل أبناء البلد الواحد، وينقسم المجتمع، وتتغير التحالفات، وبعد أن يكون لكل طرف عدو واحد، يصبحون بالعشرات.. وكثيرا ما ينسون عدوهم الأول.. الحرب لا تدمر المجتمعات وتخرب الأوطان، وحسب؛ بل وتقضي على المبادئ، وتقتل أنبل الأفكار وأصدق النوايا.. وتفجر بدلا منها صراع الهويات، وتطلق مارد التطرف والعنصرية والطائفية.. الذين يقرعون طبول الحرب، ومن يجني ثمارها، ومن يروّج لها فقط الطبقة الحاكمة، وحاشيتها، وجنرالاتها، من جانبي الصراع.. ومن يدفع أثمانها ويكتوي بلهيبها، هم المدنيون، من جانبي الصراع أيضا.. الحرب لا تنتهي بسهولة، حتى لو توقف إطلاق النار، ذكرياتها الأليمة تدوم سنوات طويلة بعد انتهائها، حتى لو كانت حربا خاطفة، لأنها الأشد إيلاما على النفس البشرية، والأكثر إثارة للرعب.. بعد الحرب مباشرة ستكون البنية التحتية مدمرة، وستنهار العملة، وستنتشر الأمراض والأوبئة، وسيحتاج الناس سنوات طويلة لمداواة جراحهم، والتعايش مع واقعهم الجديد، الآلاف منهم سيكملون حياتهم بلا أطراف، أو بوجوه محروقة، ملايين النساء الأطفال سيفقدون ذويهم، سيعيشون بلا أب، أو بلا زوج، وبلا بيت.. سيحتاج آخرون للإسمنت الذي سيغدو سلعة محتكرة، وسيحتاج غيرهم لمراكز تأهيل، ودور للأيتام، وعيادات لعلاج الاضطرابات النفسية التي سيعاني منها معظم الناس.. بعد الحرب لا يعود المجتمع كما كان.. بعد ردحٍ من الزمن، ستصير الحرب مجرد قصص بائسة تنز ألما، وستفشل كل الروايات والحجج والتبريرات التي سيسوقها أمراء الحرب والمنظّرون في إقناع طفل فقد أباه عن جدوى تلك الحرب.