ليس بين الرصاص مسافة ، وانت الوطن الذي يتحدى .. وهذا هو الوعي حد الخرافة ...
ايها الجميل ...
موتك ... أتعبني... وأتعبنا .. هذا الغياب القسري ... صوتك الذي كان يأتينا ليعطينا الأمل بالغد .. استشراق الموقف .. هذه الابتسامة وانت المنتصب القامة بكل صباح تعني لنا الكثير ونحن نستقبلك على عتبات الأمل .. سؤالك عن الموقف واستنباطه .. استماعك ومحاولة تفكيك مكونات اللحظة ... التقاط الفكرة واحالتها الى برنامج عمل ... قراءة تفاصيل وجهك في ظل اجتماعات القيادة .. الطمأنينة الدائمة والرهان على ازقة وحواري المدن الناطقة بلغة الضاد ...
ايها الفارس وانت المتطي لصهوة النبل ... انتظرتك هذا الصباح امام البوابات الموصدة الأن ... انتظر من يقول لي ( الأخ ابو عبد الله يريدك ...)
ذكاؤك، نقاؤك الثوري، صلابة مواقفك ... اسناد من يختلف معهم ... وحماية الحق بالكلام والقول وحتى الصراخ ... حرَفيتك، مهنيتك... كل هذا كان يجعلني أطمئن وأكتفي بأن للفقراء وللعاشقين للأرض السمراء ما زال نصيرا مؤمنا بهم عاملا في سبيلهم .... وان للقدس رجال ما زالوا يؤمنون بها وبقدرتها على النهوض من جديد وإثبات عروبتها.... حواريها تعرفك تماما وأزقتها كانت شاهدة على تجوالك بين ثناياها... انت يا سيدي واحدا من فرسانها الذين انهكهم التفاؤل لدرجة الترجل .. والذين علموا وعرفوا ان للأحزان جمال لابد من استغلاله في أتون فعل العطاء وتراكمه واثبات الوجود...
الآن برحيلك، بات علينا أن نفكر من جديد.... فهل من قادم نحو راية فعل العطاء البعيد عن المزيدات والفئوية والناصر للمظلومين والفقراء.... ولحملة البنادق .. والكاظيمن الغيظ ...
ربما كان هذا أجمل ما في رحيلك. قلّما كان في الحزن جمال....
فمثلما يغادر الفرسان غادر الفارس النبيل بدون ضجيج أو صخب... ترجّل فارس العطاء بدون مقدمات للرحيل... انسحب من المشهد العام ليكون الفراغ في فن صناعة فعل الفعل والتي لن يملؤه سوى واحدا بحجم الحارس الأمين على الثوابت والمدافع الشرس عن الحق بالاختلاف ... ولتعلن الكلمات عن نقص في البلاغة والتحليل وفهم الموقف وتقديراته لن يملأها إلا هذا النظيف الخلوق ذاته...
بهدوء يصل الى درجة الاستفزاز غاب الصديق الصادق عثمان ابو غربية فارس الكلمة الحرة الأمينة المعبرة عن اصرار المقاوم في عروبته، والعاشق في عشقه، والحبيب في حبه، والأرض الثكلى، التي تأبى إلا أن تنطق بلغة الضاد، في حارثيها وزارعيها...
بنبالة النبلاء اعلن عن رحيله وسكت، لا ادري إن كان قد اختار الغياب بهذه الطريقة... أشك في ذلك.... عوّدنا دائماً أن يخوض المعركة بلا هوادة حتى حدود الشهادة. فهل يُعقل أن يكون قد اختار هذه الميتة والترجل ... ؟؟
إنها ضربة قدر غاشم ليس إلا... فعثمان ابو غربية لا يتسامح مع نفسه الى درجة يسكت معها قلبه وعطاءه في آن واحد.
قال ديكارت: أنا أفكّر، إذاً أنا موجود . القائد عثمان ابو غربية كان يقول: أنا اعطي وافعل واعمل ، إذاً أنا أقاوم. لذا قاوم طوال حياته الظلــــم والاستــــبــــداد والقهر حتى من ذوي القربى. ووقف ضد الجهل والتخريب النوعي للإنسان الذي علم وعرف انه يتربص بالمقهورين المعذبين والذين يحيون تحت الأرض لا فوقها.... ناضل ضد الاحتلال من بوابة نضاله ضد الأنهزامية اولا حليف الاحتلال... عرف معنى ان تكون مناضلا حرا أبيا شريفا نظيف الكف وان تكون وسط الفقراء اولا وصوتهم الذي ينطق بكل اسماءهم عند زعماء القبائل الجدد
وبذات الوقت كان عنيدا ضد إفسادنا لنقاوة الإنسان فينا... وللحب بأعماقنا.. كان وحدويا يجهر بضرورة التلاقي في بوتقة الفعل الوطني الواحد... هو من لم يتسامح مع هذه الأمراض قط بل انتصر دائماً للحرية والديموقراطية والعدالة والحداثة والإبداع. فعل ذلك كله بفكره وقلبه وفعله وعطاءه الذي رافقه حتى اخر لحظات حياته...
كان عثمان ابو غربية يعتبر الثقافة مرادفة للعطاء، ومرادفة لفعل النقد وتصحيح الخطأ لذلك عرف معنى أن يكون المناضل مثقفاً ومعطاء مما يعني أن يكون اولا ناقداً، لذا غرف من المعرفة كثيراً وأعمَلَ نفسه أكثر في العمل والنضال في سبيل انصاف الحق ورفع الظلم عن كاهل المناضلين وكوادر الزمن الجميل ...
كان يعرف كيف يكسب الأصدقاء وكيفية ممارسة النقد فمارسة وحارب الخطأ والفساد بكل مكان وأعمل تفكيره بضرورة ارتقاء المناضلين والمثقفين لخدمة جماهيرهم بفعل العطاء بمعنى كان معلما بتجربة فعلهً.
أسلوبه كان متميزا..ً. فيه كثير من العقل والواقعية والمنطق ونعومة التعبير المقرونة بعمق التحليل والجرأة في اتخاذ الموقف....
مثلما هي العادة حينما نبحث عن هؤلاء الفرسان وسط كل هذا الدمار والإنهيار بالقيم والأخلاق قبل ان يكون فعل الإنهيار بمداميك الأساسيات الوطنية كنا نقف كل مرة عند هذا الفارس حتى انه اضحى واحدا من هذه العناوين التي من شأنها ان تربكك بهدوءها واخلاقياتها، والتي من شأنها ان تربكك بالقدرة على منحك هذا التفاؤل والنهوض من جديد... رحل فارس العطاء وترك لنا الفراغ، لعل فعل الرحيل هذا كان الحل الأمثل لإغماض العيون عن كل هذه الإنهيارات ولعل قلب عثمان لم يحتمل مشاهد تدمير الذات اكثر من ذلك....
لقد فقدنا واحدا ممن علمنا معنى أن تمتلك موقفا ً حرّاً شريفاً لا يخشى في الحق لومة لائم... ومنذ الأن فقدنا اساسا من اساسيات صناعة الموقف بالقدس وصياغة مفاهيم العطاء للقدس.. منذ الأن فقدنا واحدا ممن تعلمنا منهم كيفية صناعة القرار... وبواعثه ومنطلقاته... كنا نشعر ونحن نعمل مع ابو عبد الله بأننا امام شخص يشترك مع الأخرين بصناعة الظرف وتجلياته على الأرض وأعتقد أن الساسة ومحترفي الفعل السياسي، على مختلف مواقعهم وتحالفاتهم، كانوا يأخذون بمواقفه وتحذيراتها ممن يتربص بنا وبوحدتنا والأهم ممن يعمل على نشر واستشراء المرض فينا ... فمنهم من كان يخشى من وقائع تلك المواقف عليهم وعلى عروشهم ومواقفهم... ومنهم من كان يستبصر بها ويفكك اولوياتها ويعيد صوغ مفاهيمها بفعل تقدير الموقف للحالة الظرفية الراهنة...
اذن، بهدوء رحل عثمان ابو غربية وتركنا نتخبط في البحث والتفتيش مرة اخرى عمن يملأ المكان وساحات فعل العطاء للقدس ومن اجل القدس ولكل الوطن الذي يأن الأن تحت ضربات ابناءه وجلادي عصره الجدد من رجاله المتجهين نحو الطريق المعاكسة لفعل العطاء الحقيقي...
لقد رحل واحد من ابرز عناوين القدس حبا وعطاء واخلاقا، والأصلب في مقارعة الغلط، والأكثر استنارة، والأقدر على استيلاد الأفكار البكر والمؤهلة لأن تجدد في نمط الإنتاج الفعلي، والعاطي لذاته فرصة التحرر من تكلسات الانغلاق والوهم في امتلاك حقيقة الموقف...
يا سيدي... كنت ذلك النطاسي البارع في تشخيص العلة وتقدم لنا التحليل المقرون بالبحث العلمي لكل مظاهر وقائعنا لتعبّر عن حقيقة واقع مرحلة عايشناها بكل تجلياتها، وكنا نحاول ان نلمس من خلالك ومن خلال مواقفك بعضاً من الحقيقة وتسجيل الموقف الوطني القومي واستنباط حقائقه، على أساس الفهم الموضوعي لماهية ضرورات المرحلة، وارتباطاتها بالثوابت الوطنية غير القابلة للتفسير والتأويل بغير التفسير الفعلي لها...
الأخ الصديق الصادق عثمان ابو غربية ظل وفياً لفلسطين وللقدس حتى ترجّل، فمن القدس ننعاك وحتماً سنفتقدك ولن يملىء الفراغ سوى تراثك الذي سيحفر في سجل خلود ممن اعطوا للقدس ورحلوا....