حققت المرأة فى الآونة الأخيرة قفزات واسعة نحو تحقيق هدف المساواة بين الجنسين. الخطوات البطيئة والمتثاقلة تحولت إلى قفزات. صحيح أنها لم تحدث فى كل مكان وعلى كل المستويات، ولكنها بالتأكيد تحدث على نطاق واسع ولا تتكاسل أو تتخاذل. تأكد لى مثلا بالمشاهدة الشخصية والمتابعة الإعلامية، أن خوض هيلارى كلينتون معركة انتخابات الرئاسة فى أمريكا وتصديها بكفاءة لا بأس بها لعديد من المرشحين الرجال، وبخاصة لواحد منهم يطرح قضايا لا يقوى على مناقشتها وتنفيذها سياسى عادى.. رفع من شأن المرأة الأمريكية ومكانتها إلى ضعف ما كانت عليه قبل هذه الانتخابات، هكذا أتصور.
أضيف إلى هذا الإنجاز «التاريخى» الذى تحققه الولايات المتحدة، إقدام الأمم المتحدة على تنفيذ حلم الكثيرات، وهو فتح باب الترشيح لمنصب الأمين العام أمام النساء. تلك أيضا خطوة، بل قفزة نحو رفع مكانة المرأة على أعلى مستوى، هو المستوى العالمى. نعرف أنه شغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة، منذ إنشائها فى عام ١٩٤٥، ثمانية، كلهم من الرجال. نعرف أيضا أن فكرة أن تشغل امرأة هذا المنصب حوربت بشدة فى الدوائر المغلقة المكلفة بترشيح الأمناء العامين. تغير كل هذا، إذ تقرر أن تحل الشفافية على الدوائر المغلقة، ويجرى الترشيح علانية، بل ويتقدم المرشحون والمرشحات للإدلاء ببرامجهم وشهاداتهم أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتناقشها وفود الدول وتقرر على أساسها مدى صلاحية المرشح بعيدا قدر الإمكان عن أى ضغوط.
***
لم يقع هذا التغيير تلقائيا أو بالمصادفة، بل جاء نتيجة حملة «عالمية» اشترك فيها نساء ورجال فى دول عديدة، حملة تدعو إلى ضرورة نزول المرأة إلى معترك الترشيح والانتخابات لمنصب الأمين العام لأهم وأكبر منظمة دولية.
بدأ هدف الحملة للكثيرين مستحيل التحقيق. تعين على الحملة أن تقنع أولا وفود ومندوبى الدول فى الأمم المتحدة للتغلب على معارضة أنصار الوضع القائم أو أعداء المرأة داخل المنظمة الدولية. فى هذا الإطار عقد نساء العالم مؤتمرا رائعا فى الأمم المتحدة، شاركت فيه سيدات قررن بالفعل الترشح.
إلا أنه يجب الاعتراف أن رجالا كانوا أيضا وراء هذه القفزة الواسعة لمسيرة تمكين المرأة ورفح مستوى طموحها، نجح هؤلاء الرجال فى إقناع قطاع واسع من دبلوماسى الدول الأعضاء بالحاجة إلى مهارات المرأة فى إدارة العلاقات من الدول، وبخاصة العلاقات بين الدول العظمى. قيل، بين ما قيل، إن التعامل مع ممثلى الدول العظمى يحتاج إلى قدر من «التدليل» وفى الوقت نفسه إلى قدر أكبر من الترفع و«التقل» حسب التعبير العامى المصرى. المرأة صبورة و«حمالة أسى وأسية»، كما يعتقد الكثيرون. وهى أيضا بعواطفها الدافئة والجياشة قد تكون أقدر من الرجل على فهم حاجات المهاجرين واللاجئين وظروفهم، باعتبار أن قضيتهم ستبقى القضية الأهم فى العقود القادمة، ولعلها ليست أقل استعدادا من الرجل على تفهم القيود والدور التى تعرقل الحلول والبدائل.
***
تغيرت ولا شك خلال السنوات الأخيرة البيئة الدولية لصالح مشاركة أوسع من المرأة فى العمل الدولى. لوحظ مثلا أن الدول صارت تختار للعمل فى سفاراتها لدى الأمم المتحدة نساء حتى بلغ عدد السفيرات سبع وثلاثين سفيرة، أى أكثر من ٢٠٪ من رؤساء البعثات فى نيويورك. الجديد أيضا فى هذه المسيرة تراجع نمط التفكير فى توظيف المرأة أو تشغيلها، باعتباره واجبا «إعلاميا» أو نوعا من الترضية الاجتماعية للنساء، بمعنى آخر تراجع اعتبار المرأة شىء أو قضية لصالح اعتبارها إنسانا. يعكس هذا التوجه الدولى حالات محلية بارزة، مثل الحالة الأمريكية، حيث يثار إعلاميا وسياسيا الجدل حول أهمية رفض مفهوم انتخاب امرأة لأسباب شكلية أو مظهرية، والتأكيد على أن اختيار امرأة لمنصب هو اختيار إنسان قادر وكفء، وليس مجرد إرضاء ذمة أو أداء واجب أو مسايرة اتجاه.
كذلك يأتى هذا التطور فى سلوك المنظمة الدولية منسجما مع تطور آخر له قيمة وأهمية، وهو إعلاء دور القيم فى اختيار الأمين العام، وهو الأمر الذى استدعى تغييرا جوهريا فى ذهنية القائمين على صنع القرار الأممى.
كان اختيار الأمين العام عملية معقدة تجرى فى سرية مطلقة وتخضع لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى وضغوط ومساومات من الدول العظمى. الآن، صارت عملية الاختيار تخضع للشفافية منذ لحظة ترشيح شخص للمنصب وانتهاء بصدور قرار مجلس الأمن. من ناحية أخرى صار ملزما أن يقدم المرشح مسوغات تثبت إيمانه العميق بمنظومة حقوق الإنسان واعتناقه معاييرها الدولية واستعداده التصدى بحزم لكافة الخروقات التى تقوم بها الدول. هنا أيضا أعتقد شخصيا أن المرأة أقدر على إقناع الجمعية العامة والرأى العام الدولى، بالتزامها الدفاع عن هذه الحقوق، وبخاصة حقوق المرأة والطفل والأقليات القومية والدينية والطبقات الفقيرة.
***
أما وأن الأمم المتحدة استطاعت اختراق حاجز المنع والحرمان الذى عطل وصول المرأة إلى هذا الحق من حقوقها فى المساواة، فهى تنظر الآن بعين الأمل ونية العمل حتى تحقق اختراقا مماثلا فى جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى. هذا ليس كلامى وانما محصلة لقاءات أجريتها فى الآونة الأخيرة مع سيدات عربيات. أنا شخصيا لا أستطيع أن أفهم هذا الإصرار الغريب على أن يجرى الترشيح لمنصب الأمين العام أو المدير العام للمنظمتين فى إطار من السرية المطلقة أو المساومات الدبلوماسية العقيمة.
انتهى عصر العمل السرى فى الدبلوماسية وانفتحت السياسة الدولية والسياسات الخارجية على آفاق جديدة، يصعب أن تبقى المرأة العربية والمسلمة بعيدة عنها. قيل ردا على طرح الموضوع للنقاش العام أن من يطرحه إنما هم من الحالمين. فالطريق نحو هذا الهدف شديد الوعورة، بل والخطورة. قيل مثلا، لقد أخذت الولايات المتحدة عقودا عديدة حتى صارت مستعدة لأن يتولى رئاسة جمهوريتها رئيس أسود، والآن تترشح سيدة ورجل يهودى. بمعنى آخر قفزت الولايات المتحدة قفزة هائلة فى هذه الانتخابات الأخيرة، ولكن بعد عقود أو قرون، فلماذا نستعجل تعيين سيدة فى منصب أمين عام للجامعة أو مدير عام لمنظمة التعاون؟ ألا نعلم أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب تجاوز عدة «مستحيلات»، ليس أقلها شأنا تفضيل امرأة على رجل فى رئاسة وقيادة منظمة بعض أعضائها لم يسمح بعد للمرأة بالسفر أو الاجتماع منفردة برجل. قيل أيضا إن هناك عامل الدين. هل يمكن أن نحلم بأن يتولى منصب الأمين العام للجامعة عربى مسيحى، أو أن يترشح للمنصب عربى مسلم شيعى المذهب، أو عربى مسلم من أقلية أو أخرى. ألم يدرك بعد أصحاب القرار أن مثل هذه الشروط كافية لو استمرت لتجعل العمل العربى المشترك والعمل الإسلامى المشترك عاجز عن تحقيق أى إنجاز مثير لأعضاء الجامعة العربية ومنظمة التعاون، ولتبقيا منظمتين متخلفتين وعاجزتين. أضف إلى هذه القيود و«المستحيلات» استحالة أن يقبل الحكام أن يجرى العمل الإقليمى فى إطار من الشفافية وأن يطلع الرأى العام على جميع أعمال المنظمتين ويصبح مشاركا فى أعمالها.
***
غير صحيح أنه من المستحيل أن تتطور علاقات الدول وأنظمة العمل الإقليمية العربية والإسلامية إلى الحد الذى يسمح للمرأة بترشيح نفسها لقيادة المنظمتين وبخاصة جامعة الدول العربية. قطار التقدم والتغيير والإصلاح تحرك وهو بالتأكيد لا يجرى للوراء، وإن بدا أحيانا أو للبعض منا أنه متوقف، هو متأخر عن موعده ولكنه مجبر أن يعوض ما فاته.
عن الشروق المصرية