ليس مبالغاً القول إن تركيا بلد سياحي بامتياز ويتمتع بمقومات كثيرة تجعله من بين أهم دول العالم في الجذب السياحي، لاعتبارات الثقافة والتاريخ والجغرافيا المهمة والمركزية التي يتلاقى فيها الغرب والشرق. الموضوع لا يتعلق فقط بالتراث والشواهد التاريخية التي تحملها هذه الدولة على ظهرها، فهي غنية جداً بالتاريخ إلى درجة أن الزائر إلى هذا البلد يحتاج إلى أيام عديدة حتى يتمكن من التعرف إلى أهم معالمها التاريخية وثقافاتها المتنوعة. قبل عدة أسابيع حضرت مع وفد إعلامي إلى مدينة إسطنبول، بدعوة من رئيس بلديتها الدكتور قدير طوباش ورعاية من الدكتور مصطفى كوكصو كبير مستشاري وكالة دعم وتشجيع الاستثمار التابعة لرئاسة وزراء الجمهورية التركية. الجولة استهدفت زيارة بعض أهم المعالم السياحية في مدينة إسطنبول، والتعرف إلى عددٍ من المشروعات الكبرى التي تعكف الجمهورية التركية على بنائها لتمكين السياحة ومجاراة الدول الغربية المتطورة والمتفوقة سياحياً مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. المطلع على التجربة التركية في جانب السياحة، سيلاحظ حجم الجهد الكبير الذي حققته هذه الدولة في التطور السياحي، ولعل هذا يعود بالإضافة إلى كونها دولة تمتلك مخزوناً حضارياً وتاريخياً كبيراً، نقول: إن ذلك يعود إلى العقلية التي تدير مختلف الأنشطة في البلاد. في لقائنا الدكتور طوباش حدثنا عن مشروعات البنية التحتية الكبيرة التي قامت بها مدينة إسطنبول من أجل حل مشكلة الازدحام المروري والسكاني في مدينة يقطنها حوالي 13 مليون نسمة، فضلاً عن مئات الآلاف من السياح الذين يزورونها كل يوم. حسب طوباش، فإن إسطنبول تعتبر المدينة الأكبر من بين عشرات المدن التركية، ومع أنها ليست العاصمة إلا أنها تستحوذ على النشاط السياحي والمالي والاقتصادي والثقافي والتاريخي، فهي المدينة التي تتربع على عرش المدن التركية من حيث القوة المالية والمخزون التاريخي والثقافي. إسطنبول قبل العام 1994 كانت مدينة مُهملة ومُلوثة وتفتقر إلى إمكانيات المدن المتقدمة، حيث تكدس القمامة وتصريف مياه الصرف الصحي في البوسفور والضباب الذي يغطي كامل المدينة بفعل تلوث الهواء، لكنها اليوم مختلفة تماماً عن الأمس، وتعد في عصرنا هذا من أهم المدن التي تمتلك مقومات الجذب السياحي. كيف هذا؟ لقد أوجد طوباش نظاماً محلياً للحكم يقوم على اختيار موظفيه والثقة فيهم وإعطائهم المسؤوليات وحرية التصرف في إدارة النشاطات اليومية للبلدية، مقابل الحصول على مخرجات تنعكس إيجاباً على مدينة إسطنبول، وربط أي مخرج بمؤشرات الأداء الوظيفي. الرجل ابتعث عدداً من موظفيه إلى كبريات المدن العالمية، وتعرف إلى تجاربها في إدارة الحكم المحلي وتنشيط السياحة، ووضع خطة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة التركية، حيث أنتج ذلك وجود مشروعات استراتيجية مثل المترو والترام، ووسائل النقل الحديثة من باصات و"تكاسي" الأجرة. الزائر لإسطنبول سيلحظ التطور الذي تخطوه هذه المدينة سواء في تمكين البنية التحتية من مشروعات أنفاق وجسور جديدة ومباني ومرافق عامة، أو من خلال عمليات التنشيط السياحي التي تقوم بها البلدية للحرص على استقطاب سياح من دول مختلفة. ولأن طوباش حدّد خريطة طريق لاستنهاض قدرات موظفيه وتوليد مشروعات حيوية وتنموية، فإن بلدية إسطنبول التي كانت تعاني من عجز مالي لأسباب الفساد وسوء الإدارة المحلية في تسعينيات القرن الماضي، تمتلك اليوم فائضاً من الأموال توجهه في خدمة أنشطتها المتنوعة. موازنة إسطنبول لعام 2016 تبلغ حوالي 5.5 مليار دولار، حسب تصريحات لطوباش، حيث أُنفق ما يزيد عن 49 مليار دولار خلال ثلاث ولايات هي عمر إدارة رئيس البلدية الحالي لما يزيد عن 13 عاماً قضاها في تحسين ظروف سكان إسطنبول وخدمتهم. منصب رئيس البلدية في إسطنبول يعتبر فائق الأهمية وحساس جداً، كون الرئيس يخضع للمساءلة الشعبية عبر صناديق الاقتراع، وكون أن طوباش نجح للمرة الثالثة في إدارة بلدية إسطنبول، فهذا يعني أنه حقق الإنجازات التي وعد بها جمهوره التركي، فهو الذي ينزل للميدان ويسأل عن أحوال الناس ويستجيب لاحتياجاتهم. اللقاء الذي جمعنا مع رئيس البلدية كان شفافاً وبناءً، فليس من العيب أن نشيد بتجربة ناضجة في الحكم المحلي تقدم وقائع على التطور المستمر الذي ينعكس على مدينة إسطنبول، غير أن هناك بعض الملاحظات التي اشتكى منها عدد من الصحافيين خلال فترة إقامته في المدينة. من بين الملاحظات على سبيل المثال: أن تركيا الدولة التي تستقطب ما يزيد عن 35 مليون نسمة في العام الواحد، وإسطنبول التي تنفرد لوحدها على أقل من النصف تقريباً من الحصة الكلية بحوالي 12.4 مليون زائر سنوياً، هذه الدولة لم تراعِ مع الأسف الشديد التنوع الثقافي والسياحي لجهة استخدام اللغة الإنجليزية في المناشط والمواقع السياحية. أنت إذا ذهبت إلى تركيا ستستصعب التعامل مع الأتراك بغير اللغة التركية إلا إذا كنت تجيدها، لأن الأغلب منهم لا يجيدون سوى التركية، في الوقت الذي يستخدم فيه كثيرون من السياح اللغة الإنجليزية، وهذه معضلة تربك السائح الذي يأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار عند زيارة تركيا. ليس موضوع اللغة هو ما يحتاجه بعض الأتراك خصوصاً في المناطق السياحية لتسهيل مهمة السياح وتقديم الخدمات لهم بيسر فحسب، وإنما أيضاً بعض الشوارع تحتاج إلى وضع يافطات باللغة الإنجليزية لتمكين السائح من تحديد طريقه وعدم التوهان. عدا هاتين الملاحظتين اللتين التصقتا في ذهني، فإن إسطنبول بحق مدينة جميلة جداً وعالمية بامتياز، وهي تتطلع اليوم إلى مزاحمة كبرى المدن العالمية، ماضية في مراكمة إنجازاتها في المجال الاستثماري والإنفاقي على السياحة والبنى التحتية الخدماتية. ولعله من نافلة القول: إن التاريخ وحده أو الخضرة أو حتى الموقع الاستراتيجي، لا تجلب كلها فرادى أو متحدة الزائر، ولا تستقطب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، فكما يقول المثل: إن رأس المال جبان، فإنه كذلك سواء في حال الشركات الكبرى أو حتى في حال السائح الذي ينظر بعين الأهمية إلى عديد من الاعتبارات في مقدمتها استتباب الأمن. إسطنبول امتلكت هذه المقومات بفعل إدارة حكم رشيد ترجمها الدكتور طوباش على أرض الواقع، وبصرف النظر عن الاعتبارات السياسية، فإن إسطنبول أوجدت لها مكانة متقدمة في مصاف المدن الناضجة والمتطورة في مستويات كثيرة بما في ذلك وسائل النقل والمواصلات والتكنولوجيا المتطورة. أحسنتم دكتور طوباش على هذه الإدارة السليمة لمدينة كبيرة بحجم إسطنبول، والعبرة في بعض المدن التي ينخرها السوس والفساد المحلي، غير آبهة في التقدم خطوةً إلى الأمام، اللهم سوى أنها تجتر أمجاد تاريخها وفقط.