رغم أن كلاً من الرئيس محمود عباس وشمعون بيريس كانا مهندسي اتفاق أوسلو مطلع تسعينيات القرن الماضي، إلا أن توقيع الاتفاق احتاج تقدم كل من الرئيس الراحل ياسر عرفات وإسحق رابين إلى مقدمة خشبة المسرح السياسي لتوقيع الاتفاق، ذلك أن مهندسي أوسلو صادف وأن كان كل منهما على الجانب المقابل للآخر، يتمتع بمكانة الرجل الثاني، كذلك كانا يتصفان بالقدرة على التخطيط والابتكار، والطبيعة الشخصية المجبولة على السلام، فقد كان ياسر عرفات وإسحق رابين يتمتعان، إضافة إلى كونهما رأسي النظام السياسي على الجانبين، بالكاريزما القيادية التي يحتاجها أي قرار يعتبر تاريخياً بالنسبة إلى بلد كل منهما وشعبه. لكن بعد مرور نحو ربع قرن على "هندسة" أوسلو، ثبت لنا كفلسطينيين وأيضاً للإسرائيليين، أن صنع السلام أبعد شأواً بكثير وأعقد وأصعب، من مجرد التوصل له باتفاق، لذا فإنه بعد اغتيال رابين، ومن ثم سقوط بيريس في الانتخابات الإسرائيلية التي جرت بعد الاغتيال، وضعت حداً لعملية صنع السلام بين الجانبين، والتي مرت بتجربة المرحلة الانتقالية المحددة بخمس سنوات، كان يفترض خلالها أن تتم عملية صنع السلام، بالتوصل للحل النهائي. وبهدف التخلص من التحدي الفلسطيني، أقدمت إسرائيل / شارون، على اغتيال القائد ياسر عرفات، الذي قام بتحويل دفة الصراع للشارع، بعد أن أيقن بانسداد الأفق أمام عملية السلام عام 2000، لذا فقد "شغر" مكان القائد الذي بمقدوره أن يقود الشعب الإسرائيلي إلى صنع السلام، وعملياً تم وضع حد لأوسلو، ليس فقط بسبب التوقف عن متابعة تنفيذ الاتفاقية بالتوصل للحل النهائي، ولكن أيضاً، بسبب التراجع حتى عما تم تحقيقه من "ولاية" للسلطة الفلسطينية على ما تسميه إسرائيل نفسها بالمناطق المكتظة بالتجمعات السكانية، أي مناطق (أ) حسب أوسلو، والتي تعني أن هناك حكماً ذاتياً "للسكان" الفلسطينيين في وطنهم! كل محاولات الرئيس الفلسطيني مهندس السلام وأوسلو، الذي لم يشارك بقية أعضاء المربع الذهبي الذي عقد أوسلو، (عرفات، رابين، بيريس وعباس) جائزة نوبل للسلام، بسبب من نص الجائزة الذي لا يبيح منحها كجائزة مشتركة لأكثر من ثلاثة أشخاص، لمتابعة طريق صنع السلام وتجاوز العثرات التي حدثت بسبب غياب شركائه الثلاثة، لم تجد نفعاً، فيد واحدة لا تصفق، كما يقول المثل، وهكذا تم تثبيت حالة من الجمود في العملية، منذ أكثر من عشرة أعوام، رغم أن قيادة الرئيس للحالة الفلسطينية سياسياً وميدانياً، نجحت في تغيير الأجواء الحانقة الفلسطينية التي أعقبت انقضاء الخمس سنوات وظهور الخداع الإسرائيلي، الذي تبين أنه لم يوقع أوسلو بهدف صنع السلام التاريخي، بل بهدف "احتواء" التطلع الفلسطيني لإنهاء الاحتلال، والاكتفاء بمنح الفلسطينيين الحكم الذاتي فقط. لذا يمكن القول: إن العلاقة الفلسطينية / الإسرائيلية تحتاج إلى "تكسير" أدوات اللعبة الحالية، وذلك من خلال فعل مزدوج سياسي وميداني، وحيث إن الرئيس عباس ما زال يقود الكفاح السياسي، بهدف التوصل إلى صنع سلام يضع حداً للاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ذلك لا يكفي، فهناك تحديات عديدة تحول دون ذلك، منها أن الفلسطينيين لم ينجحوا بعد في إطلاق انتفاضة شعبية سلمية، على شاكلة انتفاضة العام 1987 التي فتحت الطريق لأوسلو، حتى بعد هبة السكاكين، ومنها استمرار حالة الانقسام الداخلي، كذلك تربع اليمين واليمين المتطرف الإسرائيلي، في سدة الحكم الإسرائيلي، مع غياب الشخصية القيادية التي تصنع التاريخ، لذلك يتزايد الشعور بالحاجة إلى فعل جديد وقيادة جديدة. لقد بات أوسلو لا وجود له، ولا معنى، وبات الطرفان أمام مفترق طرق حقيقي، لا يمكن البقاء طويلاً حيارى أمامه، وهكذا طرح الجانب الفلسطيني للمرة الألف التحذير للجانب الإسرائيلي، وهذه المرة، من خلال القول إنه ما لم توقف إسرائيل ما يسمى بالمطاردة الساخنة، التي تسمح لجيشها وقواتها من خلالها بالتوغل في مناطق السيادة الأمنية للسلطة، أي المناطق (أ)، فإنها ستعلن من جانبها التوقف عن العمل وفق أوسلو. بانتظار الرد الإسرائيلي، ستبقى الأمور تراوح مكانها، وحتى بعد الرد الإسرائيلي، لا يمكن القول إن قوة سلام ستهبط من السماء على طاولة الحكومة الإسرائيلية، لذا فإن هناك حاجة ملحة لظهور مستجد على الجانبين، خاصة على الجانب الفلسطيني، المتضرر الأكبر من استمرار حالة الجمود الحالية. كأن التوصل للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحاجة إلى انتفاضة شعبية جديدة، وكأنه بحاجة إلى وجود قائدين ومهندسين يكمل كل منهما الآخر على الجانبين، بعد أن شغر المكانان على الجانب الإسرائيلي وتحول مهندس السلام الفلسطيني إلى قائد. ربما لا يطول الأمر كثيراً، لكن ترتيبات سياسية وميدانية لا بد من إجرائها، حتى نذهب إلى اتفاق سلام ينجح هذه المرة، ومنها قبول حماس لمبادرة مروان البرغوثي بالمصالحة، ومنها أن يجري ضغط فلسطيني وإقليمي وربما دولي لإطلاق سراحه، وهو الذي يعتبر وريثاً لقيادة تاريخية فلسطينية حددت إطار السلام، لكنها، ولسوء حظها، ولأسباب عديدة، لم تعش لترى نوره يملأ سماء بلادنا.