شقيقان على حاجز قلنديا إلى الشهيدين مرام وإبراهيم
ثمة جَنينٌ يخفق بين أضلاع القتيلة الشهيدة ، وثمة لغةٌ بكماء لا يفهمها الجنود الذين لا يعرفون سوى رطانة الرصاص ، وثمة مَعْبَرٌ للاغتيال الفسيح ، يبتلع الأبرياءَ والطيورَ والأشقاءَ الذاهبين إلى المدينة ، وثمة حياةٌ لا تقدّم إلا الموت في ظلّ احتلالٍ سرق المدينةَ والقريةَ والحقلَ .. وترك لنا الحسرةَ والفجيعة .
والشقيقان ؛ من بلدة لم تغلق بيت العزاء منذ قرن !طرّزت الدماءُ شوارعَها المتربة ، فاستفاق الطيّون على رصيفه الدامي ، وغصّت الفرفحينةُ بعلقم الشقائق المتخثّرة ، وصارت ثياب نسائها تقطر بالدمع والسواد ، بعدما تزيّت الغلالاتُ ، ذات عُرْسٍ ، بالدوالي وعروق الذّهب ، وفاضت على الأكتاف سلالُ المنثور والحبق وخيوط الجنّة والنار الحريرية .
اكتشفا أنهما وحيدان، فأرادا أن يقطعا المسافة نحو القلعة، فانطفأ الزمان في احتراق المسافات، وما زالا تائهيْن في مدينة السلام المظلمة.
نظرا إلى بعضهما، فتشابكت حولهما جذور الأبجدية، والتفّت حولهما، وصعدت، وتطاولت، حتى احترقت ببرق الربيع، ففاض اللبّ، وفاض الجمر، واشتعلت الغيوم، ودبّت النجوم في السماء.
***
قال الراوي : غزالة حامل بأجنّتها تقطع الدرّب إلى شجرها، فتضربها صعقةُ الجيش، فتطير الغزالةُ وتسّاقط حبّاتُ رحْمها المدمّاة، وتتدحرج بعيداً مشقوقة البطن، والفوران الأحمرُ يتدفّق، والزغب مهروس تحت الدخان!
جاء الفلاّحون من القرى المجاورة، ولمّوا أشلاء الغزالة، وجمعوا معها الأجنّة المسحوقة، وأقاموا عليها الصلاة!
يقولون: نبعٌ من عصافير مضيئة يتدفق عالياً كنافورة من شذرات لامعة ترسم شكل قلب مكان ارتطام الحديد مع أمّ الصغار.
ويقولون: ناي يعلو كالغبش أو الغلالة يتكوّر كبطن الحامل وينفجر رذاذاً بلّورياً، حيث انسحقت الشمسُ مع نجومها التي لم ترَ النور.
ويقولون: بكاء خفيف يصدر عن الحجارة والأغصان وجذوع الشجر وأنامل العشب وتبر التراب في فضاء استشهاد الحامل الصعب.
ويقولون: إن جمرات بيضاء تنبض في الليل، كلما وسوست العتمة وادلَهمَّ الليل، فتخرج الطيور من أعشاشها تؤنس وحدة البياض الشجاع.
ويقولون: ما فتئت قطرات ندى بطنها المخمليّ ترهج كالذهب على جنبات الطريق، وإن الشجن يعلو كلما عصفت الرياح، أو مرّت العجلات القاتلة.
وقالوا: إن الغزال المكحّل الذي فَقدَ غزالته المدهومة قد تحزَّمَ بالإثمد، وجنّحت شظاياه على بُعد وردة من الحاجز المنعوف.
***
مَن سيحمل للصغار جثّةَ النازفة التي تسمّرت أمام مباغتة البنادق المرعوبة ، ومَن سيمشي في زفّةٍ مؤجّلةٍ إلى أن نعود من التيه واستلاب كلّ ما تبقّى لنا ؟
وكيف انطلت ، وما فتئت ، المؤامرةُ تحزّ بسكّينها المثلومة في أرواحنا ، بل نحن الذين نمرّر النّصل على أوردتنا ونقطّع شراييننا ، باختلافنا وفرقتنا وتوزّعنا المشبوه ، وباقتتالنا وتشظّينا وتصادم أكتافنا على الخازوق .. وكلّ ما لدينا منهوب ومأخوذ ومسروق ، بالقوة والسياط والابتزاز .. وما زلنا نتشدّق بمفردات الوطن والدّين والثوابت ؟
ألمْ نلحظ ، بعد ، أننا نخيط أكفاننا بأيدينا ونحفر قبورنا بمعاولنا ، وندفن ما ظلّ من فلسطين في قبر الانقسام والتحكّم والمكاسب الشخصية والانحياز إلى الشيطان .. أيتها الفصائل المقاومة الحريصة الحافظة للآيات والمبادئ ؟!؟
ما الذي تبقّى لديكم أيها الخطباء المفوّهون لتقولوه أمام الشواهد والأسرى والأيتام والشجر المخلوع عن عرْشه الأبدي ؟
وهل ثمة لغةٌ تصلح لرواية ما جرى من حرقٍ وخلعٍ ودَهْمٍ وسجنٍ وهدمٍ ومصادرةٍ وإذلالٍ وحصارٍ وتجويعٍ وصفاقةٍ وتبجّحٍ واغتصابٍ وقتلٍ واستباحةٍ .. في طول البلاد وعرضها ؟
وإلى متى ؟