قبل سنوات بعيدة، زار مجلة "الهدف" في دمشق، وفد برلماني من حزب العمال البريطاني، فتاتان وشاب، كان الوفد بضيافة الجبهة الشعبية، وقد تعاملت معه بتحفظ شديد، بالنظر إلى مواقف حزب العمال البريطاني المؤيد لإسرائيل في ذلك الوقت، اصطحبتهم بجولة في مخيم اليرموك، استضفتهم في بيتي على فنجان قهوة، أخذنا الحديث بالسياسة، وفوجئت أن هناك، فريقاً داخل حزب العمال، يميل نحو اليسار، مؤيدا للقضية الفلسطينية، وأن هذا الفريق ما زال محدوداً ولكنه يؤثر خطوة خطوة على سياسة الحزب، غادرت تحفظي بطبيعة الحال، لكني مع ذلك كنت أشك بقدرة هذه الأقلية على تغيير مسار حزب العمال البريطاني تجاه القضية الفلسطينية. قبل حوالي ستة أشهر، تعلّمت أن شكوكي لم تكن في محلها، وذلك عندما فاز قائد يسار حزب العمال البريطاني برئاسة الحزب إثر استقالة رئيسه السابق إد ميليباند بعد خسارة الحزب الانتخابات التشريعية الأخيرة. جيريمي كوريين، زعيم حزب العمال الجديد، معروف بمواقفه الشجاعة، إذ أنه صوّت ضد الحرب على العراق، وهو كان ولم يزل عضواً في حملة التضامن مع فلسطين، وهو "متهم" بمناصرة العرب والمسلمين، ولعلّ الأهم من ذلك أن جيريمي، يعترف بما اقترفته بريطانيا ومسؤوليتها عما لحق بالفلسطينيين من ظلم من خلال وعد بلفور، وسبق وقال في تصريح له قبل عدة سنوات "إذا لم نعترف بالحقوق الفلسطينية فإننا سنكون أمام عواقب وخيمة، وبريطانيا تتحمّل مسؤولية خاصة في هذا السياق". وبطبيعة الحال، فإن إسرائيل قامت فور الإعلان عن انتخاب جيريمي كوريين، زعيماً لحزب العمال البريطاني، بشن حملة واسعة، متهمة إياه بالتهمة التقليدية، معاداة السامية، وراجعت تاريخه من خلال تصريحاته، مشيرة إلى أنه دعا الاتحاد الأوروبي إلى إجراء حوار مع حركة حماس، وربما سيسعى إلى دعوة الاتحاد الأوروبي إلى وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، خاصة على ضوء دعوته إلى إجراء تحقيقات دولية مع الجيش الإسرائيلي بتهمة ارتكابه جرائم حرب في غزة ولبنان.. وفقاً لوسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن اطلاع زعيم حزب العمال، كحزب معارض، على المعلومات الاستخبارية للدولة البريطانية، يشكل حساسية واضحة بالنسبة للدولة العبرية!! نعود إلى هذا الملف، بالنظر إلى الحملة المنظمة التي تشنها أطراف يمينية داخل حزب العمال نفسه، إضافة إلى حزب المحافظين، والحركة الصهيونية في بريطانيا، على زعامة الحزب، إثر تصريحات للنائب نسيم شاه، وهي مسلمة، وكين ليفيغنستون، عمدة لندن السابق، اعتبرت معادية للسامية، مما اضطر قيادة الحزب إلى تجميد عضويتهما. وبالرغم من هذا الإجراء، إلاّ أن الأزمة مستمرة بين أجنحة الحزب المختلفة، خاصة أن انتخابات عمدة للعاصمة البريطانية ستحل بعد أيام قليلة، وهناك مرشح لهذا المنصب من قبل حزب العمال، وهناك خشية أن يفقد هذا المرشح فرصته التي كانت قوية بالوصول إلى عمادة العاصمة البريطانية، إضافة إلى أن الحديث المتواتر عن "لاسامية" الحزب، قد تؤثر سلباً على فرصه بالفوز في الانتخابات التشريعية القادمة، من هنا كان هذا الإجراء بالتجميد، ومن هنا تطالب بعض أجنحة الحزب بتطهيره من "اليساريين المتشددين" علماً أن هؤلاء هم الذين أسهموا في فوز جيريمي كوريين بنسبة 60 في المئة من أصوات الحزب. وبالعودة إلى الموقف الإسرائيلي، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية، وليس بعيداً عن الآلة السياسية الأمنية في الدولة العبرية، فتحت ملفاتها وأرشيفاتها لتصبّ الزيت على نار الأزمة في حزب العمال، فنشرت فيديو لمسرحية فلسطينية تم عرضها في مدينة خان يونس، وغطتها فضائية تابعة لحركة حماس، يظهر فتية يحملون ألعاباً على شكل أسلحة ويردّدون "الموت لليهود"، هذه المسرحية تم تغطية نفقاتها من قبل جمعية "انتربال"، وهي جمعية بريطانية خيرية مدعومة من قبل جيريمي كوريين الذي ظهر مؤخراً في حفل للتبرعات لصالح الجمعية، صحيفة الـ"ديلي ميل" البريطانية، تلقّفت تسريبات الإعلام الإسرائيلي ونشرت مقاطع من المسرحية وصوراً عديدة من فصولها، وتعليقها كان كالتالي: هؤلاء الصبية يلعبون الآن بألعاب أسلحة بلاستيكية وسكاكين، عندما يكبرون، من المؤكد أنهم سيتحولون لملاحقة اليهود في إسرائيل! وغاب عن هذا التعليق للديلي ميل، قول الصحافية الإسرائيلية عميرة هس، من أن الفلسطينيين يلاحقون اليهود، ليس بسبب كونهم يهوداً، ولكن لكونهم محتلين لأرضهم!! الأزمة لا تزال مستمرة في حزب العمال البريطاني، ويبدو أن هذه الأزمة مجرد درس وعظة للآخرين، قد يصل المنتقدون للسياسة الإسرائيلية إلى صنع القرار، لكن ذلك، لن يستمر طويلاً، إنها خطوة لن تتبعها خطوات، والتهمة الجائرة جاهزة، كما أن الأرشيف سيزود الحملات بكل ما يلزم!!