تعود علل الاقتصاد السياسي الأردني للظهور من جديد كلما لاحت في الأفق أزمة اقتصادية جديدة ويبدو في كل مرة أن الاقتصاد ومصير البلاد مهددان في العمق؛ فعلى الرغم من أن التكوين التاريخي للاقتصاد السياسي الأردني يوصف بالهشاشة لأنه ارتهن إلى الخارج أكثر من اعتماده على حقائق صلبة ذاتية، فإن علل الاقتصاد السياسي الأردني ليست قدرا محتوما لا يمكن الفكاك منه.
قد تكون شفافية وزير المالية في تصريحاته حول حجم الدين العام واشتراطات صندوق النقد الدولي للبدء في مرحلة جديدة صادمة ولكنها ضرورية وتأتي في الوقت المناسب لمعرفة أين ذهبت السياسات العامة بالبلاد؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ وما هي الأجندة الاقتصادية السياسية القادمة، بعدما وصل الدين العام إلى 93 % من الناتج الإجمالي الوطني، وهي المرة الأولى التي تصل فيها الديون إلى هذا الحد، والمطلوب من الخارج تخفيض هذه الديون خلال ستة أشهر إلى 80 %، السؤال اليوم كيف سيتم تخفيض الدين العام خلال هذه الفترة وما هي البدائل، وما هي الأثمان الاجتماعية الداخلية المفترض الاستعداد لها، وما هي الأثمان السياسية الخارجية المنتظرة؟
يعتمد تكوين هياكل الاقتصاد السياسي في الأصل على قرارات سياسية داخلية وسيادية، لكن جوهر تفاعلات الاقتصاد السياسي يرتبط بالتفاعلات الخارجية، تفاعلات تعاونية، صراعية، إرغامية، ولكنها تعود في الأصل إلى إرادة داخلية، وعلينا الاعتراف بأن ذهنية غير مسؤولة أدارت البلاد منذ عقود بالاقتصاد السياسي المشوه؛ زادت من مساحة الاعتماد على الخارج على حساب السيادة الوطنية وفتحت الأبواب للفساد والإفساد بهذا المدخل وغيره، وزادت من فصل المجتمع عن قيم الإنتاج وضخمت من قطاعات البزنس الاستهلاكي الرخيص على حساب الإنتاج والاستثمار الحقيقي، وأهملت السياسات الاجتماعية وضربت الاستقرار الذي بقي المورد الأغلى للدولة.
هناك مراجعة واسعة عالميا للقيم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي برزت منذ التسعينيات من القرن الماضي والتي بدأتها مدرسة شيكاغو الشهيرة، وهي مراجعات لا تنحصر على المستوى الأكاديمي والنظري بل تطال أعتى المؤسسات الرأسمالية في العالم وفي مقدمتها البنك الدولي، ويتمثل ذلك في سياسات الرعاية الاجتماعية وفي حدود تدخل الدولة وأدوارها وتنظيم الأسواق الحرة وسياسات الضرائب وإعادة توزيع الثروة والسياسات الحمائية، وفرضية القيمة في تحديد الأسعار، والمشاريع الصغيرة ذات المضمون الاجتماعي مقابل المشاريع العملاقة.
الآن العالم تأكد وبالتحديد في الأسواق الصغيرة مدى الحاجة الى صيغة تنظيمية تحمل روح المسؤولية والتزاماتها القانونية في مسار الأسواق الليبرالية، وإلا ستكون النتيجة المزيد من الحراك الاجتماعي السلبي، والمزيد من الإفقار وسوء توزيع الثروات، والمزيد من الاحتكارات؛ فالنموذج المستقل في الاندماج الآمن في السوق الليبرالية العالمية، أي النموذج الذي يبدع أفكاره وسياساته حسب حاجاته وقدراته وفق منظوري الاقتصاد السياسي والسياسات الاجتماعية، يحتاج إلى مبدأي جلب الاستثمار وتوطين الانتاج. لا يمكن أن نحل أزمة التنمية في المحافظات دون أن نمكن الناس هناك من الإنتاج، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بدون الدمج بين الاستثمارات الكبيرة والصغيرة معا.
علينا أن لا نركن الى شعور بالارتياح، وأن البلاد استطاعت أن تعبر من أزمات الاقليم، فجذر الأزمات الأردنية القادمة اقتصادي – اجتماعي وهو جذر قادر على أن يحمل حمولة سياسية مكثفة.