في حنان الحرب على حلب

1-7-300x202
حجم الخط

منذ أسبوع، وحلب تتعرض لقصف مكثف، ومنذ خمس سنوات، وسورية بأكملها تنزف دما.. الآن استفاق الجميع فجأة، وتنبهوا لعذابات الناس هناك. ومن خلال متابعتي للمجزرة، ورصد ردود الأفعال، انتابتني حيرة شديدة؛ فلم أعهد حدة وتباينا في المواقف كما يحصل الآن إزاء ما يجري في حلب.. ومع أن مواقف الناس العاديين متناقضة من ناحية تحديد هوية المجرم، وتحميله المسؤولية؛ إلا أن الجميع متضامنون مع الضحايا، بمشاعر نبيلة، لا يحق لأحدٍ التشكيك بصدقها. صحيح أن عدم تحديد هوية المجرم هو قتل آخر للضحايا؛ بإنكار الجريمة نفسها، وبتجاهل القاتل. ولكن السؤال، لماذا الإصرار على تحميل كل المسؤولية لطرف واحد، أو لشخص واحد، وتبرئة الآخرين؟! قوات النظام أمطرت المدينة بالبراميل المتفجرة، وسبق أن فعلت ذلك من قبل في مناطق مدنية أخرى، وهذه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، سيظل جبين النظام موصوما بها للأبد.. وفي المقابل أظهرت صور وأفلام فيديو قصيرة قوات المعارضة وهي تقصف حلب بالمدفعية بعبوات برميلية لا تقل فتكا وتدميرا عن تلك التي يستخدمها النظام. ولكن هل هذا يعني أن الطرفين وحدهما المجرمان، اللذان يتحملان المسؤولية التاريخية عن دماء الضحايا الأبرياء؟! من السهل تحميل المسؤولية لشخص واحد، ثم صب كل اللعنات عليه، ولكن الأصعب الاعتراف بأن كل من ساهم في إشعال فتيل الحرب منذ بدايتها شريك بالجريمة، وأن كل من سعى لإدامتها مجرم، وكل من غذاها بالتحريض والتسليح والدعم بكل أشكاله لأي طرف من الأطراف هو شريك في الجريمة.. لأن الجريمة الكبرى والحقيقية هي الحرب ذاتها، والمجرمون هم الذين يريدون لها أن تستمر، حتى لو كانت نواياهم نبيلة؛ فهذا مجرد وهم، لأن النبل والإنسانية تقتضي وقف الحرب أولا، وقبل أي شيء آخر، بصرف النظر عن جمالية وجاذبية كل الشعارات التي يروجها أنصار الحرب. بهذا المعنى، كلنا شركاء بالجريمة بشكل أو بآخر؛ بصمتنا، بتواطئنا، بعجزنا وتعاجزنا، بعدم مبالاتنا، بدعم طرفٍ ضد آخر، لاسيما وأن دعمنا وتأييدنا لطرف ما، أو معاداتنا لطرف آخر في أغلب الأحيان مبنية على مواقف مرتجلة وطائفية، أو نكاية بمن نكرههم؛ فصار من يكره «بشّار» يتمنى أن تطول الحرب حتى ينهار النظام، حتى لو أدى ذلك لمقتل مئات الآلاف من الأبرياء... ومن يكره المعارضة، أو يخاف من داعش، صار يتمنى أن تدوم الحرب حتى يقضي النظام على أعدائه، بصرف النظر عن عدد الضحايا وحجم الخراب.. والأنكى من ذلك، أن هذه الحرب فرّخت أكثر من مائة فصيل معارض، وهذه الفصائل دخلت فيما بينها في معارك كسر عظم دموية، وقد نسوا عدوهم الأول، وصار كل طرف يسعى لإدامة الحرب حتى يحقق نصره الخاص على كل معارضيه، دون مبالاة بعذابات الناس وآلامهم... في المحصلة المدنيون وحدهم، الشعب السوري الأعزل، هم من دفعوا أثمان هذه الحرب اللعينة، هم الذين تشربوا الحسرات، وعاشوا الخوف واختبروا الحرمان والقهر والذل والتهجير والقتل على يد جميع الأطراف... إذا أردنا فعلا أن نترجم عواطفنا وتعاطفنا مع الضحايا الأبرياء، إذا كنا صادقين معهم، ومع أنفسنا، إذا امتلكنا الحد الأدنى من الإنسانية فلنعمل فورا على وقف هذه الحرب، الآن وفورا، دون أية حاجة لمزيد من التحليلات السياسية والتنظير والمزاودة على معاناة السوريين.. وقف الحرب أهم وأولى من الانتصار لأحقادنا وأحزاننا ورغباتنا وطوائفنا، وتوجهاتنا السياسية والفكرية. وقف الحرب، يعني إفشال كل المخططات لكل الأطراف التي جعلت من دماء السوريين وأشلائهم ميدانا لبرامجها وأطماعها.. وقف الحرب، أهم من أي شيء آخر؛ لأن كرامة المواطن السوري وأمنه وحياته أهم من كل الأيديولوجيات والشعارات، ولأن مستقبل أطفال سورية أهم من كل الأعلام والأوهام التي أغرقتنا في دوامتها خمس سنين دامية... في خضم هذه الحيرة، لا أعلم لماذا خطر ببالي العودة لكتاب «في حنان الحرب» للأديبة السورية الصديقة نجاة عبد الصمد.. ربما لأنها تحكي الحكايةَ كاملةً، لأنها تدخل من النافذة الخلفية للوجع السوري، تتناول يوميات الحرب، من خلال سرد بعض التفاصيل التي لا تذكرها نشرات الأخبار، ولا ينتبه إليها الآخرون، حتى نحن المتابعين بألم لما يجري هناك.. وهي وإن كانت تفاصيل صغيرة؛ لكنها تكوي من اختبروها وعايشوها. تفاصيل كثيرة تناولتها «نجاة» بروح الإنسان الموجوع، وبقلب مواطنة توشك أن تفقد وطنها، وبإحساس مبدعة تجرحها دمعة طفل، ويبكيها موت فراشة، وبقلم أديبة أمسكت بيديها ناصية اللغة، فلانت لها الكلمات، لتصيغ منها برقة الفنان ذكريات الموت والدمار والخوف الذي أصاب البلاد، لتكون أكثر من مجرد رواية واقعية؛ لتكون سجلا نابضا لواحدة من أحلك الفترات التي مرت بها سورية. كتابها سيشدك من أول سطر إلى آخر كلمة، أثناء القراءة قد تصاب برصاصةٍ طائشة أو حاقدة، وقد تجوع وتعرى.. وتتشرد في مخيمات اللجوء، وقد تغرق وسط البحر الأبيض المظلم في مركب أعده تاجر حرب على عجل، وقد ترغب بالعودة لوطن ينز ألما، ولكنك ستضل الطريق، وبالتأكيد ستُهان كرامتك، وستعيش إحساس السجين المرعب والمهين في سجون النظام.. وإحساس الخوف والحسرة لطفلٍ فقد بيته ومستقبله وأهله دفعة واحدة.. بعد أن تفرغ منه ستحتاج فترة طويلة حتى تبرأ من الوجع السوري.. وستفكر مرتين، قبل أن تبدأ بقراءة كتابيها السابقين (غورنيكات سورية، وبلاد المنافي)، لأنهما على الأرجح، ينبضان بألم سورية، سورية بلدنا الأم.. «سورية التي كانت قبل هذه الحرب حلوة كدبس العنب، ستفيق على الأرض مثلما هي في خاطر الدنيا، حلوة وزكية كدبس العنب، وأنيقة كرقصات السوفييت، بعد سني الحرب المرعبة، ولا منسيّة كجوعهم المر الذي خفتت مرارته بعد أن ولّى».. بهذه الكلمات تعطينا الكاتبة جرعة أمل؛ حيث تستبشر بنهاية وشيكة لأيام الوجع السوري، لأنه حسب قولها: «الحرب لن تستمر إلى الأبد، ولن يدوم هذا الخراب». وبينما نشاهد بكل الأسى ما يحدث في حلب وحمص ودمشق والرقة ودير الزور، لا نحتاج لأية فلسفة أو تنظير، نحتاج فقط أن نعود لعقلنا، وأن ننتصر لإنسانيتنا..