المتوكل طه " إمرأة من حلب "

317059A
حجم الخط

أشرقت الشمسُ، وصعدت غزالتُها إلى أن تعامدت مع الأرض، وأطلقت أحزمتها الناغرة إلى البسيطة، فامتصّت مياهَ الدم القانية، وتلمّظت بها، فصارت عين الشمس حمراء، توزّع حمْلها غيوماً تحت أقدامها الساخنة، وكبرت الغيوم وامتدّت، واختزنت ما شربته حرارةُ الشمس في أحشائها؛ فانقدح البرقُ في قلبها، وَهَرّت بمياهها على الأعالي والسهول الظامئة، وكان الشتاء طافحاً غزيراً، يتدفّق في كل اتجاه.

***

تسّاقط الخيوطُ الماسيّة خلف البلّور الواسع، وفنجان الآورتادو(القهوة الأندلسية) برغوته الحليبية الشقراء يبعث بُخاره الناعم، والتلفاز يبثّ أغانيه الباهرة، كل شيء طبيعي وعادي! وفجأة؛ تهبط غيمة داكنة وتحطّ على التقاطع الواسع، الذي يوزّع الشوارع، فتقف العربات والمركبات، ويلوي المحيطون بالمكان رقابهم، ثم تتحول جلساتهم ليتمكنوا من مراقبة ما يجري! ويتابعون بعيون مُبحلقة تلك الغيمة التي حطّت على الإسفلت، كأنها كومة سوداء من شَعر البنات الخفيف.

يتحوّل شكل الغيمة تدريجياً، فتصبح على صورة امرأة فارعة مكتملة، ملفّعة بعباءة ليليّة، تسير المرأة نحونا، تُقابل لوح الزجاج الكبير الذي يغطّي الواجهة، نقف، من هَوْل ما نرى، فتنسرب المرأةُ الغيمةُ ذراتٍ من مسامات البلّور، كأنها نمش لا يُرى، وتتكوّم مرّة أخرى، بسرعة فائقة، وتعود كما كانت، لتصبح على مقربة ذراعٍ من جلستنا، ونحن واقفون مشدوهين! ننظر إليها بريبة وفضول، فنرى طيْفاً كأنه هالة عميقة يمشي بهدوء نحونا، والتلفاز المعلّق على الجدار قُبالتنا يعبئ المكان، فتنظر إليه، فتتبعها أنظارُنا، ونتحول نحوها، فتمدّ يدها نحو فناجين الآورتادو التي كادت تفرغ تباعاً، كأنها تُحصيها بأن تمرّر كفّها من فوقها، فنرى الفناجين قد امتلأت ثانيةً بسائل أحمر ثقيل، وتتهادى المرأةُ كأنها تنتقل على سكّة حديدية مسحورة، وما أن تصل إلى التلفاز، وتنظر إلى شاشته المتراقصة بالضوء والوجوه والصخب، حتى نراها تتفكك حبّات دقيقة سوداء كالنمل الذريّ، من رأسها إلى أخمصها، وتنفذ إلى داخل جهاز التلفاز عبر شاشته المبسّطة المستطيلة، فيقعد كلٌ منا على أريكته دفعةً واحدةً، كأنه كتلة سقطت دون حساب، ونشخص بعيوننا نحو الشاشة، لنرى تلك المرأة، وقد خلعت عباءتها الداكنة، وبقيت بفستانها المائي الشفيف، كأنها عارية، كما ولدتها السماء، وحولها بنايات مهشمة مدكوكة، وخلفها تلال منعوفة من جثث تبدو كالقطع المغموسة بدمها المخثّر، وأمامها نسوةٌ يبحثن بين الركام عمّن خبزتهم القنابل والراجمات، وسط فلقات لحم مطهم بسحجاته وسيلانه، والمرأة تدور بين الخراب، تخوض بسيول قانية تعلو وتعلو إلى أن تفيض من الشاشة، فتُرنّق المقاعد والستائر والأبواب والممرّات، واتسعت حدقاتنا التي أذهلتها صور ذلك الحيّ المقصوف الغارق بطوفان أرعن، فتطفو قطع الزبدة الأرجوانية فوقه، والمرأة تدور وتدور، وتحرك شفاهها وتصرخ، فلا نسمع صوتاً، وتدور وتلوب وتلفّ وتنعصر وتتقافز، فتأخذُ المباني المهدّمة، بكل نتوءاتها، شكل حركة المرأة الهستيرية، وتماهينا مع تلك الشاشة ساعةً أو ساعتين أو لا ندري، لكننا كنّا مأخوذين ومجللّين بتلك المشاهد المفزعة، التي عبّأت الهواء برهبتها وقوّة اندفاعتها... توقّف المطر خلف الزجاج، وثاب الحضور إلى وجودهم من جديد.

نظرنا إلى بعضنا، وواصلنا ما كُنّا فيه من حديث وشجون... وفي وجهي شك يكاد ينطق؛ هل رأى أصدقائي المرأة التي رأيتُها؟ إذن، لماذا يديرون الحديث في أمرٍ آخر، لا علاقة له بسيول الدم، التي أغرقت البساط من تحتنا؟

***

نخرجُ من بوابة المقهى الوسيعة، والرّهام يبخّ قطراته، فنركض نحو مركباتنا، ونحرّكها قاصدين بيوتنا، وسط ضوء السيارة المرتدّ اختناقاً بسبب كثافة الضباب، الذي لفّ كل شيء بدرّاعته القطنية السميكة، فندير دواليب السيارة بهدوء وبُطءٍ.

وأخيراً، أطفأتُ المحرّك، وغلّقت أبواب السيارة ومددت يدي لأتناول مفتاح باب البيت، فلم أجده! لعلي نسيته في جيب سترتي الأخرى، لا بأس، كوّرت يدي ورحت أدقّ باب البيت، وكنتُ كلما طرقت الباب تناثر الدم الذي ظننته ماءً ينزل من السماء فيقع بين يدي والباب!

وواصلتُ الطَرْق، فتزايد نثار النعمان، وعبّأ وجهي وصدري، وتراشق على ملابسي وتقاطر تحت قدمي! وأخيراً فتحوا الباب، فدخلتُ! وما أن رآني أهلي حتى صكوّا وجوههم هلعاً مما يرون، وتلعثموا، فأخبرتهم أنني بخير، ولا أدري لماذا صار لون المطر عنْدماً؟

نظرنا من النافذة إلى الشارع، فلم نر شيئاً، كان المطر قد صبغ زجاج الشبابيك بلونه السميك، وأشعلنا المدفأة، فتراقص أوارها بُحمرة زائدة غير معهودة، وجلسنا قبالة التلفاز، فكان مشهد المرأة التي تدور كالتائهة بين الخرائب والجثث وطوفان الدم على حاله، كأنه صورة مكررة. تناولتُ فنجان البابونج الساخن، فكان أحمر كعُرف الديك، ورشفت منه، فكان طعمه كحديد الدم.

أطفأت كل شيء، وقصدت السرير، فسمعت قدمي تخبّ في وحلٍ مائي، تبيّنته، فكان كالسَمنة الحمراء المتكدّرة، نفضت قدميّ، وتمددت على السرير، فرأيتُ فيما يرى النائم المرأة نفسَها التي تخوّض في الحيّ المهروس.

***

في الصباح، جلستُ إلى مكتبي، وأدرتُ التلفاز؛ فرأيت امرأةً، ربما أعرفها، أو كأنها امرأة الأمس، تقف، زائغةً وسط خراب عميم وجثث متغضّنة مقطّعة، وكانت كُلّما خَطَت وسط ذلك الخراب، تبزغ عشبةٌ خلف خطوتها تحاكي سنبلة خضراء، وكلّما صرخت، تقاذف الياسمين من بين شفتيها، إلى أن امتلأت أرض ذلك الحيّ ببساط ممرع فتيّ، وعلى الجنبات دوائر من ياسمين.