على الرغم من خفوت نشاط حركات «لا للتطبيع» مع الكيان الصهيوني في كثير من الدول العربية. وعلى الرغم من موجات التطبيع العاتية التي تنخرط فيها الكثير من الدول العربية والمؤسسات التجارية والأهلية، سراً وعلناً. إلا أن (فكرة ومبدأ) مقاطعة الكيان الصهيوني تبقى فكرة مقدسة في المخيال العربي. حتى لو بقيت في حدودها الدنيا وحتى لو أعيد ترجمتها إلى سلوكيات غير فاعلة. وسيبقى (الفكرة والمبدأ) جذوة تحفظ القضية الفلسطينية من المتاجرة ومن الضياع في متاهات الأزمات العربية اللا منتهية.
قبل بضع سنين زار مفتي مصر الدكتور علي جمعة القدس، وأحدثت الزيارة صدمة كبيرة في الكيان العربي والإسلامي لقيام شخصية بوزن مفتي مصر بهذه الزيارة التي تعد إسلامياً، حسب فتاوى منظمة الوحدة الإسلامية، من المحرمات. وقد قدم الشيخ جمعة تبريرات كثيرة وتفسيرات عديدة منها أن زيارته تمت بدعوة من ملك الأردن وبترتيب من المملكة الأردنية باعتبارها القيّمة على الأماكن المقدسة في فلسطين، ولكن كل تبريراته لم تكن مقبولة من قطاع عريض من العرب والمسلمين. بعدها بمدة قليلة قام الشيخ اليمني علي الجفري بزيارة أخرى للقدس وناله ما نال من سبقه من الانتقاد والهجوم وحتى التخوين. خرج الجفري على الفضائيات مبرراً ومفسراً هو الآخر.. وفي النهاية معتذراً لجموع المسلمين الذين جرحت مشاعرهم.
وفيما يخص الإخوة المسيحيين وبعد زيارة الرئيس السابق أنور السادات للقدس فإن البابا شنودة بابا الأقباط السابق كان قد أصدر فتوى بتحريم زيارة أقباط مصر للقدس وهدد بحرمانهم من البركة وقد عاد الجدل حول هذه الفتوى بعد قيام البابا تواضروس بزيارته الأخيرة للقدس. فالفريق المؤيد لعودة زيارة المسيحيين للقدس التي عادت وانتعشت فعلاً، فسر فتوى البابا شنودة بأنها فتوى سياسية جاءت بعد أن احتل مجموعة من الأحباش كنيسة في القدس تابعة للكنيسة المصرية ولم تحرك السلطات «الإسرائيلية» ساكناً ، وأن الفتوى أتت أيضاً في سياق الخلاف الشخصي بين البابا شنودة والسادات التي استغلها شنودة استغلالاً سياسياً ذكياً. وأكد الفريق المؤيد لعودة حج المسيحيين المصريين للقدس أن القرارات السياسية لا تنسحب على الدين. أما الفريق المعارض فقد أكد أن فتوى شنودة دينية واستحضر تصريحيه بأن المسيحي المصري لن يزور القدس إلا في رحلة تجمعه مع أخيه المسلم. وأن زيارة البابا تواضروس الحالية للقدس لم تكن تدشيناً لعهد التطبيع بل كانت لتشييع الأنبا أبرام مطران القدس، وأكد تواضروس أن المقاطعة مازالت مستمرة.
وقبل بضعة أسابيع أقام متحف محمود درويش برام الله فعالية (أسبوع الأدب) في الفترة من (7- 11 ) إبريل. دعي إليها وحضرها مجموعة من الأدباء العرب وهم الشاعر قاسم حداد من البحرين والروائية بثينة العيسى من الكويت والروائي الأردني إبراهيم نصرالله والأديب السوداني حمور زيارة وأنور حامد. والغريب في الزيارة هذه المرة أنها لم تحدث ضجيجا عربيا حول المقاطعة والتطبيع إلا نقاشات خجولة وسريعة على نطاق مجموعة من المثقفين لم تلبث أن ذهبت أدراج الرياح. والهدوء الذي اكتنف رحلة المثقفين إلى رام الله والسلام الذي عبروا به الطريق ذهاباً وإياباً يثير أسئلة ثقافية جوهرية. فهل الشارع العربي الذي ثار وهاج على زيارة الشيخين جمعة والجفري والبابا تواضرس لا يعترف بوزن المثقف العربي وخطورة المعنى الرمزي الذي يمثله حلوله في فلسطين؟ أو هل القضية الفلسطينية لم تعد في صدارة أولويات المواطن العربي الذي صار وطنه مهدداً بالاحتلال وصار في وطنه لاجئون كثر غير الفلسطينيين مثل العراقيين والسوريين؟
والموضوع لا يدخل في دائرة المزايدات على الولاءات في القضايا الوطنية ولا يمس من انحياز أي زائر للقدس للقضية الفلسطينية ولا يلمز بأي قصد من مقاصد التطبيع. أنا شخصيا كنت من مؤيدي زيارات القدس باعتبارها كسراً للحظر الصهيوني على مدينة القدس وانفتاحا عربيا على المقدسيين وتشكل دعماً ومؤازرة مادية ومعنوية للفلسطينيين. أما مسألة الختم «الإسرائيلي» فقد صار يمكن تجاوزها عن طريق ترتيبات السفارات الفلسطينية في الوطن العربي. وقد كنت فعلا على وشك الالتحاق بإحدى الزيارات ثم عدت للتردد ثانية. ولكن أكثر من تمكن من إقناعي بعدم جدوى تلك الزيارات وبانطوائها تحت مظلة التطبيع هي الصديقة الباحثة الفلسطينية الدكتورة نائلة الوعري التي كتبت مقالا بهذا الشأن تضمن توضيحات مهمة منها : أن الزيارات للقدس تتم بتنسيق بين السلطة الفلسطينية، التي هي إحدى إفرازات التطبيع، وبين السلطات الصهيونية. وأن تلك الزيارات تكون لأيام محدودة في خطوط سير محدودة وفق الضوابط التي يشترطها الكيان الصهيوني ولا يحق لأي عربي زائر أن يتجاوزها وإلا تعرض للمساءلة القانونية والترحيل.
وأشارت الدكتورة نائلة إلى أن العرب الذين يحملون جوازات سفر أوروبية أو أمريكية هم من ينطبق عليهم مبدأ زيارة القدس للتضامن مع الفلسطينيين وكسر الحصار عنهم؛ لأن بإمكانهم المكوث في القدس والتبضع من المقدسيين واستئجار منازلهم وفنادقهم للمبيت، وبإمكانهم الصلاة في المسجد الأقصى في الوقت الذي يشاؤون كما بإمكانهم حضور الفعاليات التضامنية مع الفلسطينيين والتعبير بشكل علني وديمقراطي عن تأييدهم للقضية الفلسطينية وللحق الفلسطيني. في حين يُمنع كل ما سبق على أي عربي يدخل القدس بالتفاهمات «الإسرائيلية» مع ترتيبات السلطة الفلسطينية.
وبهذا المنطق فإن فتح المجال أمام العرب المسلمين والمسيحيين لزيارة القدس يبدو مشوباً بالريبة وبالمقاصد المقلقة تجاه القضية الفلسطينية. وبما أن الزيارة تشبه الدخول تهريبا لمجرد إثبات الدخول والخروج.. فلا داعي لإثارة الزوابع في فنجان ضيق. ولا داعي لكسر الحظر المقدس عن زيارة العرب للقدس.
عن الخليج الاماراتية