كيف يصبح الزعماء الطيبون طغاة ؟

131258107441895653568
حجم الخط

هل تصنع الشعوب طغاتها، أم يُفرضون عليهم فرضا!؟ هل جميع الطغاة هم في الأصل كذلك، أم أن السلطة غيرتهم؟! في واقع الأمر، كثير من الزعماء والقادة كانوا مفعمين بروح الثورة، ومشبّعين بعاطفة وطنية جارفة، ثم تحولوا إلى طغاة ومستبدين؛ ربما كانوا في البداية صادقين في نواياهم، ولكن فرديتهم، وتركز السلطات في أيديهم، وتوهّمهم بأنهم يمثلون الخير المطلق، جعلت منهم تجسيدا واقعيا للشر.
فبعد سنوات قليلة من الحكم، تتنامى نرجسيتهم بسرعة مذهلة؛ فلا يعودون يرون إلا صورهم على شاشات التلفاز، ولا يصدقون إلا تقارير المنافقين وهي تمدح انتصاراتهم وإنجازاتهم، ولا يسمعون إلا دوي تصفيق النخب الطفيلية التي تحيط بهم؛ حيث يحيط كل زعيم منهم نفسه بحاشية من أشباه المثقفين، ينجحون في تحويله من رجل نقي في وطنيته إلى نيرون جديد، وعادة ما تكون طبائع الاستبداد حاضرة في شخصه، ثم يعكسها على بنية نظامه؛ فما أن يستلم الحكم حتى يطهّر الحزب والحكومة من المعارضة، ومن كل من يتوجس منهم، أو من لا يثق بهم، ثم يمتد بطشه للشعب.
وهؤلاء، لا يمثل القمع في نظرهم إلا تضحية لا بد منها مقابل الإنجازات التاريخية، والإرهاب هو استعراض لقوة الدولة، والقمع أداة لمواصلة المسير حتى النهاية، والمواطنين وُجِدوا لخدمة الشعارات الكبرى... أصحاب هذه النهج لا يهتمون بمتابعة تفاصيل الحياة اليومية للشعب، ولا يرون بؤس الناس وفقرهم ومعاناتهم، ولا يزورون سجون الدولة، ليروا كيف يعامَل السجناء، وكيف تطبَّق نظرياتهم الثورية على الأرض، فهذا ليس شأنهم؛ مهمتهم هي الدفاع عن انجازات الثورة ضد أعدائها، وضد العناصر المخربة بالمجتمع.. وتحت ستار هذه الشعارات الرنانة يرتكبون أبشع الجرائم، ويتحولون إلى طغاة ومستبدين.
«صدام حسين»، على سبيل المثال، كان عراقيا بامتياز؛ وكانت لديه رؤية بعيدة المدى، بيد أنه بدلا من توجيه مقدرات بلاده في مجالات التنمية، أهدرها على التسليح وبناء الأجهزة الأمنية، وورط بلاده بسلسلة من الحروب أريقت فيها أنهار من الدماء، سُفحت دفاعا عن حلم مجنون، أراد تحقيقه بأسلوبه الخاص الذي يقبل التضحية بملايين الناس.
«حافظ الأسد»، كمثال أشد وضوحا، قام بانقلاب باسم الثورة التصحيحية، وتحت هذا الشعار حوَّل حياة السوريين إلى كابوس، جثم فوق صدورهم ثلاثين عاما، ثم ورَّث السلطة لابنه «بشار»، الذي واصل مسيرة القمع بنفس النهج الدكتاتوري. ونفس الصورة تتكرر في نظام «علي عبد الله صالح» في اليمن، ونظام «القذافي»، بل وفي كافة الأنظمة العربية.
ولو ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الطواغيت في العالم، لوجدنا كل ما هو عجيب وغريب، ومثير للاشمئزاز، وسجلا حافلا بالقمع والإرهاب... والمثير للدهشة أنهم كانوا يمارسون جرائمهم تحت شعارات جميلة ..
«هتلر»، أبرز مثال على الحكم الدكتاتوري، آمن بتفوق الأمة الألمانية، وبسبب ما تعرض له وطنه، أسس حزبه النازي، وحاول إعادة انبعاث أمته، واسترداد كرامتها، والرد على الهزيمة. تدرج في الجيش حتى وصل سدة الحكم (بالانتخابات)، لكن تعصبه وعنصريته، حولته إلى مجرم حرب، فقُتل بسبب أحلامه المجنونة ما يربو عن الخمسين مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية. طبعا لا يتحمل وحده كل المسؤولية عن كل تلك الأرواح التي زهقت؛ فمثله كل القادة والزعماء الذين كانوا يضعون شعوبهم حطبا لحروبهم وأطماعهم الشخصية، ولكن مع اختلاف الرايات والشعارات.
«ستالين»، من جانب آخر، مثل نموذجا مختلفا للاستبداد؛ بدأ حياته مناضلا شيوعيا، لكن سنوات حكمه كانت الأشد وطأة على حياة الشعوب السوفييتية، بالرغم من الإنجازات المهمة التي تحققت في عهده، إلا أن الجانب الآخر المعتم يحكي عن تفاصيل مرعبة: اقتلاع الأقليات العرقية من موطنها، وتهجيرها، معسكرات الاعتقال الرهيبة، حملات التصفية والتطهير، حملات الإعدام، والمجاعات ...
وفي مثال آخر: الرئيس الأوغندي الأسبق «عيدي أمين»، الذي اشتهر بهوسه وعاداته الغريبة التي باتت المادة المفضلة للصحافيين. حين تولى قيادة الجيش، وتحت شعار التخلص من الدكتاتورية قام بانقلاب على «ميلتون أوبوتي»، لكن سنوات حكمه الثماني كانت الأسوأ في تاريخ أوغندا، إذ شهدت عمليات قتل جماعية أدت إلى مقتل 10% من شعبه.
ولعل طفولته المعذبة وحياة الذل التي عاشها في شبابه، انعكست على شخصيته؛ فصار ينـزع إلى الانتقام والعنف، وفي أواخر عهده أصيب بجنون العظمة، وصار لقبه الرسمي: «صاحب السيادة فاتح الإمبراطورية البريطانية، الحاج الماريشال الدكتور عيدي أمين دادا، الرئيس مدى الحياة لجمهورية أوغندا، القائد الأعلى للقوات المسلحة، رئيس مجلس الشرطة والسجون». 
وأيضاً، الرئيس الروماني الأسبق «تشاوتشيسكو» بدأ حياته صانع أحذية، ثم التحق بالحزب الشيوعي حتى صار أمينه العام، وبدلا من تحقيقه الإنجازات التي وعد بها، اقترنت فترة حكمه بالشدة والبطش والفساد، وفي نهاية حياته أصيب بجنون العظمة، فكان يطلق على نفسه ألقابا غريبة: القائد العظيم، والملهم، ودانوب الفكر، والمنار المضيء إلى أن قامت عليه ثورة شعبية أيدها الجيش، وانتهت بإعدامه.
«ماوتسي تونغ»، محرر الصين وقائد الثورة الكبرى، «سيمون بوليفار» محرر أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني، حملوا أعظم القيم التحررية، لكنهم تحولوا في نهاية حياتهم إلى طغاة ومستبدين، هؤلاء وغيرهم، بسبب السلطة المطلقة، ونظرة التقديس من قبل شعوبهم، وقمعهم لأي صوت معارض... انقلبوا من محررين وفاتحين إلى زعماء دكتاتوريين غارقين في نرجسيتهم. فما من طاغية إلا توهم بأنه أهم حلقة في التاريخ، وأنه صانع المعجزات.
ولا يعني أن أي حاكم لم يرد ذكره هنا أنه بريء من تهمة الاستبداد، حتى أولئك الذين نظنهم ثوريين وقادة عظاما، وبنوا أمجادا لشعوبهم، لو دققنا النظر قليلا لوجدنا أن كل صرح شيدوه، وكل مجد حققوه، إنما قام على أكتاف المقهورين، الذين اكتوت جلودهم بسياط الذل.
النظام الذي يكفل استقلالية القضاء، وتداول السلطة، وسيادة القانون، وتكون فيه الصحافة قوية، وحده الذي لا يتحول فيه الرئيس إلى طاغية؛ بل يظل موظفا برتبة رئيس.