لم تعد قضية المفاوضات السياسية السورية هي مفتاح الحل الأساسي في موضوع الملف السوري، بقدر الجهد الذي يبذله المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا، إلى جانب واشنطن وموسكو لتأكيد وقف العمليات القتالية بين فرقاء النزاع السوري.
لا يعني ذلك أن المفاوضات السياسية ليست بتلك الأهمية التي يمكن أن تقود إلى حل سياسي ينهي دوامة العنف التي زادت عن الخمسة أعوام، وإنما يجوز القول إن نجاح استكمال المسار السياسي مرهون بقضية تثبيت التهدئة ووقف القتال في سورية.
طوال مسار المفاوضات السياسية كان النزاع على أشده بين القوات الحكومية السورية ومختلف المعارضات المعتدلة والمتشددة، وجاء جنيف 1 و2 دون أن يحرزا أي تقدم، الأمر الذي دفع بدي مستورا للتمسك بأهمية تثبيت هدنة جزئية في منطقة معينة، قد تصلح تجربة يمكن استنساخها في مناطق أخرى.
حاول دي مستورا مراراً أن يركز على مدينة حلب ويعتبرها نقطة تثبيت وقف إطلاق النار، لكنه لم يتمكن من ذلك، إلى أن تغيرت الوقائع السياسية والعسكرية على الأرض، حينها تدخلت كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا للموافقة على تثبيت هدنة شاملة في شهر شباط الماضي، يستثنى منها تنظيمات متطرفة مثل «داعش».
أغلب الظن أن وقف إطلاق النار بين واشنطن وموسكو جاء لفرملة تقدم القوات الحكومية السورية والسيطرة على مناطق خاضعة للمعارضة المعتدلة، ذلك أن النظام السوري حصل في أواخر العام الماضي على دعم عسكري سخي من روسيا داخل الأراضي السورية.
الهدنة التي ثبتت في شباط الماضي جاءت لتمنع قضاء النظام السوري على المعارضة، ولتعطي استراحة للأخيرة من أجل لملمة صفوفها وتمكين نفسها للشروع في جولة جديدة من المفاوضات والنزاع العسكري، وهذا الذي حصل مؤخراً.
هذا عن هدنة شباط، أما هذه الهدنة الأخيرة التي جرى تثبيتها بين الولايات المتحدة وروسيا وتستهدف مدينة حلب، فإنها تقوم على منطق أن مفاوضات عبثية سفسطائية خير من صفر مفاوضات ونزاع مستفحل.
الهيئة العليا للمفاوضات العصب الرئيسي في هيكلية المعارضة المعتدلة، علّقت مشاركتها في مفاوضات جنيف الشهر الماضي، لأنها ترى أنه لم يحصل أي تقدم فيما يتعلق بمرحلة الانتقال السياسي، إلى جانب موقفها المعترض على ما تسميه خروقات القوات الحكومية السورية للتهدئة المعلن عنها في شباط.
هذا التكتيك الذي استخدمته الهيئة العليا للمفاوضات جاء بهدف تحريك العملية السياسية لجهة الاستجابة لشروط المعارضة، غير أن وفد الحكومة السورية الذي حضر إلى جنيف وجد أن تعليق الهيئة العليا للمفاوضات أمر جيد للقوات الحكومية ويصب في مصلحة استثمار النزاع العسكري من حيث تفعليه لتحقيق مكاسب على الأرض.
الآن وبعد اتفاق التهدئة الجديد هذا الذي حصل بعد استنجاد دي مستورا بالطرفين الأميركي والروسي، حتى يضغطا على طرفي النزاع السوري، قد يحصل الآتي: ستعود التهدئة إلى الواجهة لكن ليس كسابق عهدها، وستبقى جيوب مشتعلة تشكل عنواناً لمواصلة النزاع على الأرض.
بعدها سيتحرك دي مستورا لإحياء جولة جديدة من المفاوضات، على أمل الحديث حول قضايا إجرائية مثل التأكد من الهدنة ووقف العمليات القتالية، وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى المنكوبين السوريين.
إذاً وقف إطلاق النار لن يهدأ مائة بالمائة، ومن المرجح أننا سنشهد استنساخاً لتجربة مفاوضات- هدوء- نزاع- مفاوضات وهكذا دواليك، خصوصاً وأن المسار السياسي السوري معقد جداً وليس هناك من طرف يرغب في التنازل لإيجاد لغة توافقية مشتركة تنهي الأزمة السورية.
القوات الحكومية السورية تركز جداً على حلب وتعتبر أن تحقيق انتصار نوعي هناك، سيعني بالضرورة بالنسبة لها تحقيق انتصار سياسي في أي جولة تفاوضية، ومجرد أن النظام السوري قبل بتهدئة جارية الآن، إنما إدراكاً منه أنه عاجلاً أم آجلاً فإن القتال سيعود إلى هذه المدينة.
أما المعارضة فإنها تعمل على أمرين، الأول أنها تسعى بقوة لإعادة لم شملها والتوحد في موقف يمكنها الحديث بصيغة الجمع، والثاني أنها تحاول الضغط باتجاه الحصول على أسلحة ثقيلة تجعلها في موقع الطرف القوي في المفاوضات السياسية وعلى الأرض.
ولعله من نافلة القول إنه في ظل حالة الإمساك التي تشهدها العملية التفاوضية والتي تجلت نتائجها في مختلف جولات جنيف، فإن طرفي النزاع يشعران أن الميدان يمكنه أن يُسهّل المسار السياسي، وهذا تدركه واشنطن وروسيا اللتين سعتا بقصد إلى إجهاض التهدئة لمرحلة من الوقت.
لو أرادت واشنطن وروسيا تثبيت التهدئة وضمان سريانها على كامل التراب السوري، لتحقق ذلك بفعل الضغط الذي يمكن أن تمارساه على طرفي النزاع السوري، لكن سياسة المفاوضات وتواصل النزاع الجزئي جنباً إلى جنب، تعتبران أقل تكلفة من الوصول إلى مرحلة نزاع فقط.
إن عودة مسلسل النزاع من جديد إلى الواجهة بدون عملية تفاوضية، سيعني نكبة جديدة أقوى من النكبات التي ترتبت على الأزمة السورية، والدول الأوروبية لم تعد قادرة على تحمل أعباء جديدة سواء مادية أو حتى تتعلق باستقبال اللاجئين السوريين.
ما يجري في سورية هو حرب بالوكالة بين قوى كبرى تسعى لفرض مصالحها، ولا يهمها معاناة الشعب السوري ومصيبته الحالية، بقدر ما يهمها أمران، إما أن تحصل على مبتغاها وتعلن أنها الطرف المنتصر، أو أن تقبل بصيغة أحفظ ماء وجهي ولا أُهزم أو أنتصر.
والأمر الثاني أن تخرج في النهاية من هذه الحرب إما بالكثير من الأموال على شكل عقود وصفقات لتوريد أسلحة وخلاف ذلك، فضلاً عن وضع اليد على عملية إعادة إعمار سورية، أو أنها أوعزت وتعطي الأوامر لوكلائها بتغطية تكاليف الحرب السورية ومن ثم عدم تحمل أي تكاليف مادية ترهق كاهلها.
ليس بعيداً أن نسمع في يوم من الأيام عن صفقة بين روسيا والولايات المتحدة لإنهاء الأزمة السورية، تستهدف تحقيق مصالح مشتركة، فالتاريخ يشهد على أن مصائب قوم عند قوم فوائد.
-