كل الرجات العنيفة لن تحدث مهما حاولت جاهدة أي إفاقة لقلوب شبعت موتاً ولم تعد تكترث لما يحدث في غزة أو لعقول تصر على استمرار مسلسل الحزن الطويل، أي مأساة تلك التي باتت جزءاً من تفاصيلنا اليومية، أينما أدرنا وجوهنا لا نحصي سوى الأحزان في رحلة طويلة بات من الواضح أن استمرارها هو قدرنا الوحيد ارتباطاً بما نسمع ونرى ونقرأ من سلوك مسؤولين.
لو كان هناك مسؤول يعرف ما الذي صنعه لهذا الشعب لتوارى خجلاً وتوقف عن الحديث والكتابة أو لانزوى قليلاً في لحظة حساب مع الذات. ولكن لأنه لا حساب ولا عقاب ولا ضمائر تهتز؛ لم يعد الموت حدثاً استثنائياً في منطقة لم يعد للإنسان فيها أي قيمة أمام وهج السلطة والصراع عليها. فالسلطة أهم من الإنسان وليست السلطة من أجل الإنسان، وأمام هذا الوعي العربي الذي يعكس سلوكاً يومياً لا بد وأن يموت البشر محروقين أو منتحرين أو مقهورين. لا يهم هنا كيف ولكن الواقع أصبح ملطخاً بالموت.
في قصة الموت الأخيرة ما يدمي القلب بفاجعة لأطفال أغلقت عيونهم للأبد، من أسرة تعيش بلا حياة. فالأب بائس بلا عمل والأم مريضة. هذه الأسرة التي تستأجر أحد الحواصل للعيش فيه لأنها بلا بيت، ولما كان الأطفال يتضورون جوعاً أراد الأب الخروج باحثاً لدى أهله عن كسرة تسد رمقهم قبل النوم. فقد انتهى زمن المرأة التي كانت تطبخ الحصى حتى ينام الأولاد. خاف الأولاد من العتمة قبل مغادرة الأب للتسول فأضاء لهم شمعة الموت التي أحرقتهم جوعى. خافوا من العتمة ليدخلوا في عتمة الموت للأبد.
«لو أنهم أكلوا شيئاً قبل أن يموتوا». هذه الجملة الأكثر حزناً كانت تقولها الأم المفجوعة. يا الله! كم تلك كافية لهز عروش السلطات والأحزاب والقوى وكل شيء فينا!
القصة مؤلمة جداً، ولكنها واحدة من عشرات آلاف القصص اليومية في غزة لأسر باتت بلا شيء. عشرات آلاف الآباء بلا عمل.
لماذا لم تضيئوا البيت بالبطارية؟ هكذا سأل أحد الصحافيين الأم الثكلى أجابت: وهل نمتلك ما نأكل به حتى نشتري للإضاءة؟ هذا هو الأهم، أن هناك عائلات لم تجد ما تأكله وليس صحيح أن ما يقال: إنه ليس هناك جوعى في غزة، فغزة تموت جوعاً وألماً وحزناً وقهراً.
لا يمكن أن تتنصل حركة حماس من المسؤولية على قطاع غزة وما يحدث فيه. كان يجب أن تجري كل الحسابات اللازمة قبل إقدامها على السيطرة على القطاع لأنها تدرك أن هذا القطاع وما يورد له فقط يأتي عن طريق اتفاقيات مع السلطة وعبرها فقط. ليس فقط وقود الكهرباء بل وكل الأشياء أيضاً. وكان يجب أن تدرك أنها حين تطرد السلطة من القطاع وتستغني عن خدماتها أن السلطة لن تكون صديقة لها وتساهم في إنجاح تجربتها، بل إنها ستمعن في إفشال تلك التجربة. هذه حسابات لا تحتاج إلى عبقرية لإجرائها. لو تمت ربما لكان الأمر مختلفاً.
لا يمكن تحميل المسؤولية هنا للسلطة. كيف يمكن لحركة تحكم القطاع وتتحكم بالمعابر والضرائب ومسؤولة عن كل شيء لكنها ليست مسؤولة عن تلك العائلة وآلاف بل وعشرات الآلاف مثلها.
إن كل من يحيل المسؤوليات ويتهرب من المسؤولية هو ليس مسؤولاً حقيقياً وليس جديراً بالمسئولية. ولا يفهم هنا خطاب إلقاء اللوم كله على الرئيس الفلسطيني بينما حركة حماس خالية من المسؤولية عن كل ما يحدث في القطاع. وهنا إذا ما تم قياس المسألة بموقف الجهاد الإسلامي الذي قال: «إننا كلنا نتحمل المسؤولية».
فالجهاد الإسلامي ليس طرفاً في السلطة ولا في التشريعي ولا بالمعابر أو الكهرباء، وهو خارج النظام السياسي الفلسطيني كله، ومع ذلك حمل نفسه المسؤولية مثله مثل الجميع ولم يتنصل من تلك المسؤولية باعتباره حزباً سياسياً يعتقد أنه كان بإمكانه أن يفعل الأفضل. لم يستسهل تنظيم الجهاد الإسلامي إلقاء اللوم على غيره على الرغم من أنه آخر من يمكن إشراكه بالمسؤولية عما يحدث بالقطاع.
ليس الأمر هنا للمزاودة على حركة حماس أو تسجيل هدف بملعبها. هذه لعبة السياسيين وليس الكتاب. بل الأمر هنا مدعاة لنقاش حقيقي بعد تسع سنوات من سيطرتها على القطاع والتي تتطلب جرد حساب. وماذا لو استمرت هذه الحال؟ هل يمكن أن تقبل ذلك دون أن نعدد تفاصيل الأزمات المتعددة والتي تستنسخ نفسها؟ والحقيقة أنها أخطأت منذ لحظة طرد السلطة وتأبطها مسؤولية غزة وحدها، فهي محاطة بعدد من الخصوم والأعداء، لا إسرائيل تريد نجاحها ولا مصر التي تعيش الصراع مع جماعة الإخوان ولا حتى السلطة الفلسطينية التي اقتلعتها من غزة والتي لسوء حظها أنها الوحيدة المسؤولة عن إمداد غزة بالحياة وفقاً للاتفاقيات. هذا هو الواقع وهذه هي خريطة الجغرافيا والسياسة التي على الحركة أن تقرأ موقعها ومكانها فيها.
لا يكفي مع كل مأساة أن تقول لنا الحركة من المسؤول عنها، ولا نطلب منها القيام بدور التشخيص والتحليل والاتهام، بل نطالب بدور من يجد الحلول وسط هذه المعادلة والبيئة المعادية تماماً لها والتي تركز كل جهودها على إفشال الحركة. ولم تفعل الحركة طوال السنوات الماضية سوى الشكوى وإلقاء اللوم والاتهام، وهو أمر أبعد تماماً عن أن يشكل حلول، ولو كانت تشكل لانتهت الأزمات من السنة الأولى ولكنها تراكمت حتى كسر ثقلها ظهرنا جميعاً.
المخجل أكثر في رواية الحزن الجديدة لهؤلاء الأطفال هو أنهم في عرف المتخاصمين ليسوا أكثر من مادة للتراشق الإعلامي بعيداً عن إنسانية من الواضح أنها خلت من خطابنا حتى.
حرق ثلاثة أطفال يجب أن يصفع كل المسؤولين، المسؤولين حقاً، فالمسؤولية ليست انتقائية ولا يحق هنا لحركة حماس التنصل منها؛ فهي التي قررت بمحض إرادتها وبسلاحها أن تتأبط مسؤولية غزة دون أن تستشير أحداً، أو حتى كل الذين استشارتهم طلبوا منها ألا تتورط بتشكيل الحكومة عندما فازت في الانتخابات؛ حتى تبقى بعيدة عن المسؤولية، ولكنها أدارت ظهرها لكل النصائح بل وذهبت أبعد، ليس فقط بتشكيل الحكومة تحت غطاء السلطة، بل إلى طرد هذا الغطاء كيف أمكن فهم ذلك؟ وهل توقع أحد أن تنجح؟
بيت القصيد هنا، أن السلطة ليست صديقة لحركة حماس، بل إنها خصم تسعى بكل جهدها لإفشالها، كما أن الحركة ليست صديقة للسلطة؛ فالجو بينهما منزوع الثقة، وهذه ليست مفاجأة حتى لا يعتبر أحد أنه اكتشف ذلك الآن.
وفي ظل هذا العداء وتحكم السلطة بأنابيب الحياة في غزة، ماذا على حركة حماس المسؤولة عن غزة بأمنها واقتصادها ومعابرها وكهربائها وضرائبها أن تفعل؟ وكيف يجب أن تخفف من الأزمات؟ هذا هو السؤال والذي إن استمر تجاهل إجابته علينا انتظار الكارثة القادمة، وسنقول أن غيرنا هو المسؤول مع استمرار السيناريو المستمر منذ تسع سنوات، مع إدراكنا أن هذا القطاع الصغير لن يتمكن من الحياة دون مسؤولية السلطة.
على حماس أن تبدأ حواراً جدياً معها برعاية الفصائل كلها لأن كل النظام السياسي وكل مواقع المسؤولية لا تساوى موت طفل كانت له أمنية هي أن يأكل... فأية مسؤولية تلك؟