ما زلنا نعيش في مرحلة «المسألة الشرقية» بكل تفاصيلها، خصوصاً في بلاد الشام والعراق، حيث كان لكل طائفة أو أقلية حماتها الأجانب. وحين كانت السلطنة العثمانية في طور الانحدار واضطرت تحت ضغط أوروبي وروسي إلى سن نظام «الملل»، نظام يعترف لكل طائفة باستقلالها «الداخلي»، أي لها الحق في أن تكون لها مدارسها ومحاكمها الخاصة، يدير شؤون رعيتها مجلس ملّي مسؤول أمام الصدر الأعظم، أي يشاركه في حكم هذه الطائفة أو تلك. أليس هذا ما نراه في أوضح صوره في لبنان؟ ورث هذا البلد نظام الملل وحافظ عليه بكل تفاصيله، فهناك مجلس إسلامي سني، ومجلس إسلامي شيعي، ورابطة مارونية، وأخرى أرثوذوكسية، ومشيخة عقل درزية. والكل يشارك في الحكم، ليس لتمثيل اللبنانيين بما هم مواطنون متساوون أمام القانون، بل للدفاع عن مصالح الطائفة المرتبطة بمصلحة الخارج، وذلك باعتراف الجميع وفخرهم بهذه الدولة الراعية أو تلك، وإجراء مفاضلات بين الحماة، حتى وصل الأمر ببعضها إلى طلب الحماية من إسرائيل.
هذا في لبنان. أما في سورية فأنشئت الدولة الحديثة على أسس مختلفة. وكان يفترض بشعار العروبة أن يكون جامعاً، فلم يسمح لأي طائفة بإنشاء مدارسها أو سن قوانينها الخاصة. وهذا ما اعتبر أحد أوجه الاستبداد الذي فرض الهوية العربية على الجميع. والآن أصبحت سورية، بعد الحروب المتواصلة منذ خمس سنوات، مجرد تجمعات عرقية ومذهبية متناحرة، لكل تجمع رعاته الخارجيون يدعمونه بالمال والسلاح والأيديولوجيا، ويسعون إلى إعادة نظام الملل ليكون لكل راعٍ حصته في هذا النظام. وها هي حدود المذاهب والطوائف والأعراق ترسم بالدم يومياً أمام أعيننا. وقد هجر البلاد معظم الذين يعارضون الديكتاتوريات الجديدة الناشئة الساعية إلى التقسيم، مغامرين بحياتهم وحياة أطفالهم. والطريف أن الرعاة يتاجرون بهم وبقضيتهم، ويقايضونهم بأثمان سياسية، ليس أقلها السماح للأتراك بالدخول إلى أوروبا من دون تأشيرة. والأكثر إنسانية بين هذه الدول تختار منهم ما تحتاجه من مهارات في العمل مثل الأطباء والمهندسين والعلماء والمفكرين.
العراق سبق سورية إلى نعمة نظام الملل. بعد سقوط العروبة وإلغاء ذكرها في دستور بريمر، أخذت الطوائف والمذاهب والأعراق كل حريتها. تقاسمت السلطة على أساس الأكثرية والأقلية، فرئيس الوزراء شيعي ورئيس الجمهورية كردي، ورئيس البرلمان سني، وللمسيحيين والصابئة والإيزيديين «كوتا» من النواب. وطبعاً لكل طائفة ميليشياتها وحماتها الخارجيون. وإن كان للولايات المتحدة وإيران حصة الأسد. أما تركيا الساعية إلى تجديد عثمانيتها وتحقيق حلمها بضم الموصل فلديها في الدولتين من يأتمر بأمرها، وهي مصدر قوة لهذه الميليشيا أو تلك. لكنها، هي الأخرى، تتجه في سرعة للعودة إلى نظام الملل، فرئيس البرلمان إسماعيل كهرمان يدعو إلى إلغاء العلمانية من الدستور، ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو يستقيل من منصبه بسبب الخلاف مع أردوغان الساعي إلى تنصيب نفسه سلطاناً جديداً عبر تحويل النظام إلى رئاسي كي يكون قرار الحرب والسلم في يده، متجاهلاً أن بلاده أيضاً خليط عرقي ومذهبي، وقد تتفجر الهويات داخلها، تماماً مثلما تفجرت في سورية والعراق. وعندها تعود المسألة الشرقية إلى بداياتها وتصبح مساعيه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مجرد وهم، ويصبح «النموذج الديموقراطي الإسلامي» مجرد تاريخ مضى.
عن الحياة اللندنية